الكَثْرَة!
- أوّل القول أن الكثرة مثيرة للإعجاب، بما في ذلك كثرة الخبيث!. قال تعالى: “قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ”.
- لا يمكن للكثرة، إن هي اتّجهت إلى المزيد من الاتّساع، إلّا أن تتورّط بالعشوائية، وبضم عدد كبير، مُضِرّ، ممّن يمكن للفوضى أن تكون مفيدة لهم ويمكنهم الانتفاع منها!. وهذا، بالضبط، ما تقدّمه شبكات التواصل!.
- سقراط راح ضحيّة لمثل هذه التجمّعات العشوائية، أو العشوائية تقريبًا، أو شبه العشوائية!. ولا أظن أن النتيجة ستختلف كثيرًا، فيما يخص أحفاده وورثته والمنتسبين إلى منهجه في ضرورة التفكير الحر، القائم على التدبّر وإعمال العقل وتحكيم المنطق برغبة حقيقية في المعرفة والإنصاف!.
- هذا اللهاث المحموم لجمع أكبر قدر من المتابعين، يتسبب في ضرر، وفي تنازلات، بعضها مَعيب ومخجل!،... لنتحدث عن سقراط!.
- اعتُبر غريبًا، بل وشرّيرًا، فقط لأنه لم يؤمن بأن رأي الأكثرية يعني الصواب بالضرورة!.
- لِوَهْلَة، يُظنّ أنّ هذا سبب بسيط ولا يُمكنه أنْ يكون مُكْلِفًا إلى الحدّ الذي يشرب صاحبه السّمّ بحكم محكمة!، لكن هذا ما حدث بالفعل مع سقراط، أوّل الفلاسفة!.
- كان، وما يزال، رأي الأكثريّة يُشكّل سُلْطَة. في الغالب، تحلّ هذه السّلْطة محلّ الدّليل والمنطق، طاردةً إيّاهما من المكان، مستحوذة على كل أسلحتهما!.
- ولأنه، وكما يقول “آلان دُو بُوتون”: “يُمكن للفكرة المفروضة سلطويًّا، برغم عدم وجود دليل على كيفيّة تشكّلها، أن تحمل، لفترة ما، القيمة الكليّة لفكرة منطقيّة”!، عانى سقراط، ويعاني كل من فيه نزعة سقراطيّة، الأمرّين على مرّ الزمن، وباختلاف الوسائل!.
-”آلان دُو بُوتون” هو صاحب كتاب “عزاءات الفلسفة”، وهو أحد أجمل الكتب، ومن ألطفها للقراءة، بل إنني لم أقع، فيما قرأت، على من هو أحسن من “بُوتون” في صياغة حكاية سقراط بالحسرة التّأمليّة اللائقة، وبالمحبة الكثيفة المُستحقّة!.
- ينبّهنا كتاب “عزاءات الفلسفة” إلى قضيّة مهمّة، وهي أن كل من الفلسفة والفنون إنما جاءت لمساعدتنا في الوصول إلى أهم ما نبحث عنه جميعًا: السعادة!. مشيرًا بفطنة وطرافة إلى أن الفلسفة، والفنون، إنما جاءت لتعرية الإعلانات التجاريّة وكشف تلاعباتها بنا وعلينا!.
- الإنسان لديه ضعف عجيب تجاه الزركشة التجاريّة، الناس عمومًا “كائنات طيّعة للإغراءات”!. من هنا تأتي قوّة الإعلان التجاري، وينجح التسويق!.
- كل ما يتم عرضه بأناقة وأُبّهة ويتم الحديث عنه بإطراء، حتى لو كان مُفتعلًا، وحتى لو كنّا على يقين بأنه مفتعل، فإن التكرار، والحضور الغاشم للبهرجة، يمكنهما إقصاء هذا اليقين وإسكانه في منطقة مُعتمة من أدمغتنا، ويقلل من درجة تنبّهنا له إلى ما تحت الصفر!. ننطلق بعدها مبهورين بما لا يُبهر!، مستشعرين أهميّة كبرى فيما لا أهميّة له تقريبًا!.
- يقول أحدنا: “فلوسي وأنا حرّ”، ويشتري ساعة ثمينة، وسيارة فارهة، وحلوى فاخرة، وهكذا!. المسألة ليست في أنه ليس حرًّا في فلوسه، أو على الأقل فإنّ الفلسفة والفن لا يعترضان على منطق حريّته في ماله، لكنهما يريان أن هذا أساسًا ليس السؤال، وبالتالي فإنه ليس الجواب لما يحدّثانه عنه ويحثّانه عليه!. السؤال: هل هذه الأشياء تحقق السعادة بالضرورة؟!.
- وفي الوقت الذي تذهب فيه الفلسفة لتشريح الأضرار والأخطار المترتّبة على مثل هذا اللهاث المحموم، كاشفة عمّا يمكن للتسويق الاستهلاكي والإعلان التجاري فعله من حيث قلب الأمور وتزوير الوجدان، حيث المسائل الثانويّة تحل مكان الأولويّات!. يأتي الفنّ ليلكزك بخفّة فَطِنَة، مشيرًا إلى أن لمسة، من يدك، حانية، على رأس طفلك، أهم بكثير من نوع السُّكّريّات التي تقدّمها له، وأثمن بكثير من ثمن اللعبة التي تشتريها له!.