2021-01-04 | 22:34 مقالات

المغارة!

مشاركة الخبر      

ـ يقول شاعر، ويكتب كاتب، ويُصرّح مبدع: أرفض أن يقف الجمهور على أصابعي ليوجّهني إلى ما أفعل!. لا لمسألة “الجمهور عايز كده”!. وكلمات كهذه، فيصفّق الجمهور، منتشيًا بفرادة فنّانه معجبًا بقدرته على التّحدّي وبإصراره على الحريّة!.
ـ لكن نفس الجمهور هذا، أو عدد كبير منه، يرفض بازدراء، ويعترض بغمْص، على نفس الشاعر أو الكاتب أو المبدع عمومًا، فيما لو أنّه قال: جمهوري ليس على رأسي طبعًا!. وأي أحدٍ من هذا الجمهور، ومهما أبدا تعلّقه بفنّي، وأظهر من ذلك الافتتان ما أظهر، فلا جمائل له عليّ مُستحقّة الرّدّ، وبالذّات إذا كان هذا الرّد المُنتظر هو أن أضعه على رأسي!.
ـ تتدبّر في المقولتين، تجدهما وجهان لعملة واحدة، وأنهما بنفس الاتجاه والمعنى، فتستغرب لماذا قَبِل الجمهور الأولى مرحبًا ورفض الثانية غاضبًا!. المسألة هنا أبعد وأعمق من حكاية “الملافظ سعد”!.
ـ على كلٍّ: الفنّان يجب أن يظلّ حرًّا فعلًا. طليقًا من كل قيد، متخفّفًا من كل ثقل!. رافضًا الانصياع لغير فنّه!. وسواءً صاغ رفضه الانصياع هذا بالطريقة الأولى أو الثانية، أو بطريقة ثالثة أخفّ، أو رابعة أثقل، فإنّ المتلقّي الحقيقي سيقبلها، ويتفهّمها!.
ـ ذلك أنّ المتلقّي الحقيقي هو فنّان حقيقي أيضًا، والفنّان لا يمكنه الإبداع دون تصعيدات مُدبّبة لكل ما مِن شأنه رفع سقف الحريّة!. هو لولا خوفه من التَسيّب لعمل على هدم السقف أصلًا!.
ـ سرّ فتنة وولع المبدع بالإبداع، على مشقّته، مكمنه الخِفّة التي يشعر بها المبدع لحظة التقاطه لومضة إبداعيّة فارقة!.
ـ إحساس الفنّان بالتخفّف من كل ما يُثقل عليه بمجرّد وقوعه على جديد مدهش، هذا الإحساس هو الذي ما أن يجرّبه الفنّان مرّة واحدة في حياته، حتى يعرف أنه المُبتغى والمُراد والمأمول في حياته ومن حياته كلها!.
ـ يصير على دراية، مرتبتها اليقين، بأنّ لا شيء يمكّنه من استعادة لحظة الحريّة ونشوة الانطلاق تلك، سوى عيشها من جديد في عمل جديد، لذلك يتمسّك الفنان الحقيقي بفنّه، لا يتنازل عنه ولا يريد غيره!.
ـ المبدع يُنجز، وفي لحظات إنجازه لعمله، يفتتن بلحظات التّخفّف من كل شيء، بما في ذلك من نفسه!. أبدع ليتخفّف، فكيف يقبل حمولًا جديدة وبهذا الثقل: آلاف من الناس على رأسه؟!.
ـ والذين يريدون منه أن يُسكنهم في عينه ويضعهم فوق رأسه، فقط لأنهم صفّقوا له وأشادوا به وشجّعوه، يرتقون مرتقىً صعبًا، ويحلمون بالمستحيل، الذي وما إن يحصل، حتى يفقد المبدع كلمة سرّ المغارة السحريّة إلى الأبد!.
ـ الفنّان الحقيقي ليس مغرورًا، ولا نرجسيًّا. وكذلك المتلقّي الحقيقي لا هو مغرور ولا نرجسي!. الفنّان المنخدِع والجمهور الخادع هما منبع الغرور والنرجسيّة والغشّ والزّيف والقيود!.