قهوة الظّلماوي!
- لم تكن القهوة عند أهل البادية، مشروبًا “يعْدِلْ الراس” فحسب!. وهي إلى اليوم، عند أهلها، ليست مشروبًا طيّبًا وكفى!. لكنها أيضًا، عمل فنّي!. و “راعي الكيف” يعرف ذلك ويُقدّره، ويتباهى بمهارته في صنع القهوة، فهي ليست دليل كرم فحسب، لكن اتقان صنعها دليل موهبة ومهارة أيضًا!.
- من زاوية أن القهوة عند أهلنا قديمًا، وعند كثيرين منّا اليوم، تُشكّل عملًا فنيًّا، شأنه شأن أي عمل فنّي آخر: قصيدة، لوحة، موسيقى، قصّة ورواية، يمكن لي قراءة واحدة من أعذب وأجمل القصائد الشعبية بطريقة مغايرة أتمنى أن تطيب لكم. قصيدة “دغيّم الظّلماوي” الأشهر من نار على علم!.
- “يا كليب شبّ النار يا كليب شبّه..
عليك شبّه والحطب لك يجابي..
عليّ انا يا كليب هيله وحبّه..
وعليك تقليط الدّلال العذابي”!
القصيدة مثل القهوة، كل عمل فنّي، مثل صناعة القهوة!.
تقول لك هواجسك ويحثّك الشغف مناديًا: “شبّ النار”، مع وعد بالمساعدة: “عليك شبّه والحطب لك يجابي”!.
قسمة عدْل: حَبّ الكلمات وهيل الخيال عليها، وعليك الإشعال والانشغال!. إشعال النار، والانشغال بأدواتك حسب مهارتك في الإيقاع و”الدّوزنة” لإدخال الدنيا في إطار ينساب مُخصّرًا، مثل امرأة حسناء لعوب بعض الشيء!، أو مثل دَلّة عذبة:
“و.. عليك تقليط الدّلال العذابي”!.
- تذكّر: مهمّتك ليست “تقليط الدّلال” فقط!. يتوجّب أن تكون الدِّلال “عذبة”، وأن تكون عملية “التقليط” عذبة كذلك!. وإلا فإن أي شخص، ودون حاجة لمهارة من أي نوع، يمكنه “تقليط الدِّلال”!.
- حتى اللغة، تنحاز، بانزياح فطن، يكاد يتخلّى عن الصُّدفة، ويقترب من كونه موعدًا، حين نمازج بين: الدِّلال، والدَّلال، والدِّلالات!. وكذلك بين العمل و”المعاميل”!.
- لقصيدة “دغيّم الظلماوي” روايات كثيرة، واختلافات عديدة في الألفاظ وفي ترتيب الأبيات، شأنها شأن كل قصيدة تُحفظ مشافهةً، ولا تُكتب إلا بعد مرور سنين طويلة على “قولها”!.
- تمضي قصيدة القهوة، بما يمضي إليه وبه العمل الفنّي، إلى أن تصل إلى الأسلوب والإيقاع، هذا إن أمكننا إضافة أفق جديد لهذا البيت:
“ونِجْرَهْ توالي الليل يدْعيك نَبَّه..
يا طِق طارَه: حِس ذيبٍ بنابي”!.
- الإيقاع، والرّتم، هو وحده، أو على الأقل فإنه أوّل وأهم، ما يفتح القلوب والدروب “داعيًا” المتأمّل إلى الدّخول!. وليس كل من عرف الوزن أحسن الإيقاع!. المبدع وحده هو من يترك اللغة تفور وتغلي دون أن تخرج عن السيطرة!. الإيقاع فطنة مدبّبة، حيث الرِّتم كاشف للمكان البعيد “الخطِر” ممّا يمكن للتأمّل الفني الوصول إليه: “حِسّ ذيبٍ بنابي”!.
حضور الذئب هنا يمنح فكرة الإبداع في الإنجاز وفي التلقّي، شكلًا، رائع الدلالة من حيث الاعتماد على النفس والعنفوان والخطف والحزن والتّسامي!.
- إن مَشَيْنا هذا الممشى، نلتقي بأبيات، ونتلقّاها بتفتّح جديد!. حيث التّلقّي الفنّي عملية إبداعية أيضًا!، ولأصحابه ما يتّصفون به ويتميّزون به عن غيرهم، من هذه الصفات:
“الشجاعة” حيث لا تأمّل فنيًّا يقود إلى “ظَفَر” دون جسارة، وخبرات متزايدة ومتجدّدة في مُلاقاة العمل الفنّي على أرض العمل نفسه!.
ومن هذه الصفات “الكرم” و”الرّحابة”!. لمثل هؤلاء خُلِقت الحِيازَة. حيازة الأعمال الفنيّة والأدبيّة الشاهقة!.
- في حين أن هناك مَن يُستحسن أن يفوتهم العمل!. فللفن كرامة وللأدب كبرياء!.
وللتّأمّل والتّلقّي الجمالي أخلاقياته أيضًا، ومنها التّرفّع عن الدّنايا، وعدم الدخول إلى عوالم العمل الفنّي بغرض التّصيّد شهوةً في السِّباب والشتيمة!،..:
-”صُبَّه لمنعورٍ ليا جاه نَبّه..
يرخص بعمره والدّخَن له ضبابي”!
أي للشجاع الجسور الذي ما إن يُنادى حتى يأتي “كلّه”!، مرخصًا العمر، لا ينكشف الضباب إلا وقد هلك أو انتصر!.
-”وصُبَّهْ لقرمٍ صَرْفِتَه ما حَسَب به..
يوم البخيل مكنهب الوجه هابي”!.
أي للكريم السّخيّ المعطاء رحب الصدر الذي لا يحسب ما أنفق من جهد ومال ووقت في سبيل إكرام الضّيف. والعمل الفنّي في موقعٍ من مواقعه ضيف، وفي موقعٍ آخر مُضيف!.
- “وعَدَّه عن اللي ما يداري المسَبّهْ..
اللي يدوّر بالقصير الغيابي!”.
أي أبعدها، وجنّبها، ملاقاة اللئيم، لا تصبّ له منها شيئًا، وأبقه محجوبًا عنها!.
لئيم التّلقّي هو ذلك الذي يدخل العمل الفنّي، لا يهتم ولا يقدر على كشف شيء من جماليات العمل ومحاسنه، فتجده منهمكًا، يبحث عن منقصةٍ في العمل، فإن لم يجدها ابتدعها!.
ولنتذكّر أن الغموض، مثلاً، من بعض حِيَل التّخطّي و”التّعْدِيَة”!.