ضرورة
المسرح الغنائي!
ـ للنّهوض بالأغنيّة، آخر ما يلزم التفكير فيه هو الأصوات الجميلة!. دائمًا، هناك أصوات جميلة. ربما هي بحاجة للدراسة وبعض التدريب، لكنها موجودة وبكثرة، وحتى حكاية تدريبها مقدور عليها بقليل من الجهد!.
ـ الأغنية هي اللحن!. من أوَلها لآخرها لحن!. أتحدّى إن كانت هناك أغنية واحدة نجحت وانتشرت وأثّرت وبِقَيَتْ في القلوب ولم يكن لحنها عذبًا وجميلًا!.
ـ لو كانت الأغنية تعتمد على الشعر القويّ لما بقيَت من قصائد المتنبّي قصيدة لم تُغنّى!. ربما، باستثناء هجائيّته في مقصوف العمر “ضَبَّة”!.
ـ لو كانت الكلمات هي العنصر الفارق حقًّا، لما أعادت “أم كلثوم” غناء رائعة الحمداني “أراك عصيّ الدمع” بلحن آخر، بعد عجز اللحن الأول عن الوصول وكسب الإعجاب!.
ـ أكثر من مرّة، ضربت هذا المثل: لو لم يترنّم عود بليغ حمدي وتتغلغل موسيقاه في “حب إيه اللي انت جاي تقول عليه”، لو تَعامَل ملحّن تافه مع الكلمات، لما نجحت ولما حرقت القلوب!. تخيّلها فقط باللحن الذي ركّبه عليها “اللمبي” في أحد أفلامه، وستسقط الأغنية تمامًا، ولن تُقبل إلا على سبيل الكوميديا الساذجة، ولن تُغنّى في غير كباريهات الدرجة العاشرة!.
ـ وجود الملحن العبقري، الحسّاس، الموهوب هو الأساس في الأغنية، ولا حاجة للقلق، فمن يتمتّع بهذه الصفات لن يكون رديء الذوق في اختيار الكلمات!. بالمناسبة: “سهم” ملحن عبقري!.
ـ لكنني سأتحدث عن الكلمات!.
أولاً، الشاعر شيء ومؤلّف الكلمات، أو الشاعر الغنائي، شيء آخر!. قد يجتمعان في شخص، لكن اجتماعهما هذا صدفة، مثله مثل صدفة اجتماع موهبة التمثيل والغناء لدى فنان ما!.
ـ الشاعر الغنائي موسيقي، ليس بمعنى الأوزان والقوافي فقط، لكن بمعنى فهم الآلات الموسيقيّة، ولو كان فهمًا وجدانيًا فقط!. لكنه ليس كأي فهم وجداني طبعًا!. في روح الشاعر الغنائي ملحّن خفيّ، موهوب، عارف وعازف!. بل وميّال أكثر إلى موسيقى الآلات وما يمكن لها أن تجترح من مشاعر وأحاسيس!.
ـ هذا الشاعر الغنائي، بحاجة ماسّة إلى وجود مسرح غنائي، فعلي وحاضر ويعرض وله جمهور!. هو حتى لو لم يكتب لهذا المسرح، فإنه بحاجة لوجوده!. دون وجود مسرح غنائي، لا يمكن لأفكار الكتابة الغنائية أن تتطوّر وتتمدّد، وستظل كتابة الأغنية تلف وتدور على عدد محدود، وفقير، من المواضيع، وتختنق بنفس أساليب الطرح المتداولة!.
ـ المسرحيّة الغنائيّة، بحكايتها البسيطة، قادرة على خلق فُرص لمواضيع جديدة. قادرة على إتاحة دفق جديد من المضامين، يصعب تخيّل إمكانيّة وجوده، في غير حضور حكاية وشخصيات وحدث رئيسي وأحداث صغيرة في ظلّه!.
ـ كل عمالقة الغناء المصري، خرجوا من عباءة سيّد درويش، وكل جنون سيّد درويش خرج من المسرحيات الغنائيّة!. والرّحابنة أكثر من فطنوا لذلك، ولو أنهم حُرِموا من المسرح الغنائي، لما قدروا على تقديم واحد من عشرة من هذا الثراء البهيّ في تجربتهم المتفرّدة!.
ـ ارجع إلى واحدة من أهم، وأعذب، أغاني فيروز، ومن أكثرها شجنًا، ودخولًا إلى القلب: “سوى ربينا.. سوى مشينا.. سوى قضّينا ليالينا”، ستجد أنها كانت في الأصل، تغنّي لـ “عربيّة البطاطا” التي تم احتجازها!.
ـ ارجع إلى أهم أعمال “علي الحجّار” تجدها تترات لمسلسلات!. ليست تترات المسلسلات إلا تنويع للمسرح الغنائي وامتداد له!.
ـ لا نروح بعيدًا: أكثر أغنية أثّرت فينا، وسكنت وجداننا بحق، في السنوات الأخيرة، كانت مقدّمة لمسلسل سعودي: “الله يا وقتٍ مضى.. لو هو بيدينا ما يروح”!.