الفقد العكسي.. واقع مر وسينما متقنة
نتطرق كثيرًا لتساؤلات الحدود لدى السينما العالمية بشكل عام، والمقصود بالحدود هنا هي ذلك الخط الأحمر الذي تشعر أن صانعي الأفلام لن يتخطوه أو على الأقل كثير منهم يمتنع عنه.
يندرج تحت تلك الخطوط الحمراء لدى البعض على سبيل المثال القدح في الديانات أو الجماعات، أو توريط أنفسهم بالمواضيع السياسية، ولدى آخرين أمور قد لا تطري على بال الأغلبية مثل مشاهد قتل الحيوانات.
لذلك نجد أن في أغلب الأفلام حينما يضطر الرجل لقتل كلبه أو قطته المريضة فهو يخفي مشهد الرصاصة ويظهر وجه الممثل وهو حزين على فعل ما يعرف بالقتل الرحيم بسبب مرضٍ أليم.
لاحظت بعض الخطوط الحمراء الأخرى مع كثرة متابعتي للأفلام بشكل عام وهي ما أكتب عنه هذا اليوم.
كثير من المخرجين وخصوصًا متناولي تصنيفات الأكشن، الرعب، وكذلك الدراما يبتعدون كل البعد عن تصوير مشاهد تعتبر موجودة بالحياة الواقعية ووقعها من أقصى أنواع الألم لدى الناس. وهي الفقد العكسي.
العُرف أن يموت الوالد والابن يبكي عليه، لأن هذا حال الدنيا الطبيعي، ولكنه بالواقع ليس كذلك بالضرورة، فالمؤلم هو أن يشاهد الوالد موت ابنه. وهذا ما يولد حزنًا أشد وقعًا من الأول على عين المشاهدين.
وبالتالي هذه المشاهد لا يتجرأ الكثير من المخرجين تصويرها. فتجد أن البيت المسكون تضحي فيه الأم لتنقذ جميع أطفالها بالنهاية، أو القاتل المعتل عقليًا يضحي الأب بنفسه ليهرب الأطفال. وغيرها من الأعمال البطولية للآباء في سبيل أبنائهم.
ولكن الأمر المؤلم أن الواقع لا يكون بالضرورة كذلك. حيث إن الأب قد يفشل في إنقاذ ابنه، والأم في ذلك البيت المسكون قد تفشل في إخراج أبنائها في نهاية الفيلم.
هذه الأحداث إن حصلت فتكون مؤلمة حتى ولو لم يبذل بها مجهود كبير في حبكة القصة، لأن الحدث هنا كافٍ في قوته لدى الجميع.. وهي أساليب ذكية لكتابة الأفلام.
افتتح المخرج جون كراسينسكي فيلمه “مكان هادئ 2018” بطرق عبقرية كثيرة وفريدة، ولكن لعل من أبرزها هو مشهده التمثيلي الذي حدث بتمثيله وكتابته وكذلك بإخراجه بشكل رائع.
حيث يبدأ الفيلم حينما ارتكب ابنه الصغير غلطة جعلت من المشاهدين أن يكونوا في قمة الرعب والترقب لمشاهدة جون يركض بكل سرعته وملامح الخوف تكتسي وجهه قبل أن يقتل طفله الصغير أمام عينه في بداية الفيلم.
ذلك المشهد لم ولن أنساه، فالأب هنا لم يفشل فقط في أن ينقذ حياة ابنه الصغير بل شاهد عجزه في إنقاذ طفله بنفسه.
أتذكر ذلك الشعور المؤلم و شعرت به قبل ذلك أيضًا في فيلم “مانشيستر باي ذا سي 2016” والذي كان كذلك يناقش قضية الفقد العكسية القاسية، حين يتحدث الممثل الرائع كيسي أفليك إلى ميشيل ويليامز عن الغلطة التي كلفتهم كل شيء بما في ذلك انفصالهم.
كلا الفيلمين استخدما أسلوبًا غير متداول بالسينما لقسوته، ونجوا بذلك. وعليه أقول إن السينما يجب أن تكون بلا حدود، والجرأة في الطرح ولو كان مؤلمًا يجب أن يكون حاضرًا. وإذا كان للمخرجين خطوط حمراء فبطبيعة الحال قد لا نشاهد سينما عميقة بواقع مؤلم كألم الفقد العكسي.