صورتنا الجميلة بالضّرورة!
ـ في رواية “الهويّة” يحوم “ميلان كونديرا” حول الصداقة. يذكرها، ويتذكرها، عبر شخوصه، في أكثر من موضع: “هذا هو المبرّر الوحيد لوجود الصداقة: توفير مرآة يستطيع الآخَر أن يتأمّل فيها صورته الماضية التي كان من شأنها، لولا هذر الذكريات الأبدي بين الرّفاق، أنْ تنمّحي منذ زمن طويل”!. “يجب سقاية الذّكريات كما تُسقى الزهور في أصيص، وهذه السّقاية تقتضي اتصالًا منتظمًا بشهود الماضي، أي بأصدقاء”!.
ـ ننتقل إلى عمل آخر، تحديدًا إلى مسرحيّة “نهاية اللعبة” لصمويل بيكيت، وهناك نعرف سرًّا من أسرار محاولة الإنسان القبض على “صورته الماضية”. حوار بين “هام” و”كلوف”:
“هام”: كانت جميلة، فيما مضى، كزهرة في الحقول، ورائعة للرّجال.
“كلوف”: ونحن أيضًا كنّا جميلين فيما مضى. من النادر ألّا يكون الإنسان جميلًا فيما مضى!.
ـ يكمن السّرّ في الجملة الأخيرة: “من النّادر ألّا يكون الإنسان جميلًا فيما مضى”!. نعم، ولذلك يتمسّك كل واحدٍ منّا بصداقاته القديمة. يحاول قدر الاستطاعة ألّا يقطع صلته بها، لأنّ قطع الصّلة بها، يُوقف “هذر الذّكريات الأبدي”!، فتنمحي صورنا الماضية، الصورة الجميلة لكل واحدٍ منّا. الجميلة بالضرورة!.
ـ حين تنقطع صلة أحدنا بصديق قديم، صديق طفولة، ثم نلتقيه صدفة بعد زمن طويل، لا نعود قادرين على تسييل “هذر الذكريات” الذي يُبقي لكل واحدٍ منّا صورته الجميلة، الجميلة بالضرورة!. نتصافح، نتحدث قليلًا، نحاول، لكن فجأة، ينقطع الحديث، ولا نجد ما يمكن لنا قوله، فنقع في حرج، يرمي بنا إلى ضيق، وتصير لدينا أمنية نخجل منها، لكنها تتشكل: أمنية، أن ينتهي هذا اللقاء القصير، ويمضي كل منّا إلى حال سبيله!.
ـ مثل هذا الشعور لا يصيبنا حين نلتقي بصديق طفولة، أو صديق قديم عمومًا، دون أن ننقطع عنه أصلًا!. فبمجرّد وجوده، لا تكون هناك أي حاجة لبذل مجهود من أي نوع، لتسييل “هذر الذّكريات”!. لدرجة أننا قد لا نتحدّث، لمرّات كثيرة، عن هذه الذّكريات، لكننا نعلم بوجودها، ونشعر بقوّتها الجاذبة، وهذا يكفي!.
ـ سبق أن كتبت، ما لا أزال مقتنعًا بصوابه: الصداقة هي اكتشاف شخص لشخص آخر، بينما الحب هو اختراع شخص لشخص آخر!. الصداقة لنتذكّر، بينما الحب لنتخيّل!.
ـ ولأن حسابات المشاعر لا تخضع للقوانين المطبّقة في جدول الضرب والآلات الحاسبة، فإنّ نتيجة 1 + 1 في عالم الصداقة = 2 أو أقل!. يمكن للنتيجة أن تكون واحدًا أيضًا!. بينما في الحب: 1 + 1 = 3 أو أكثر!. ذلك لأنه وفي الحب فإن العاشق وهو “1” يحب الآخر “2” ويحب معه المُتَخَيَّل “3”!.
ـ تحضرني كتابة شعرية “قديمة” لي بهذا الخصوص:
“كان الفضا أوراقْ..
في درْج مَكْتَبْتِي
وكنّا ثلاث عشّاقْ:
إنتي.. وأنا.. وإنتي”!.
ـ هذا ما يجعل نتيجة 1 + 1 في الحب = 3 على الأقل!. أمّا لماذا أضفت “على الأقلّ” فذلك لأن الحب حين يؤدي إلى الزواج، والزواج يؤدي إلى الإنجاب، فإنّ العدد سيزيد حتمًا!.
ـ تذكّرت شيئًا:
في رواية “الهويّة” لكونديرا، سطر: “بين الحقيقة والصديق، أختار الصديق دائمًا”!. وظني أنّ هذا قد لا يحدث دائمًا، وعلى طول الخط، في الصداقة. ففي لحظة ما، قد يختار أحدنا الحقيقة على الصديق!، مخالفًا بذلك رأي الشخصيّة في الرواية.
أمّا في الحب فلا أظن أنّ ذلك ممكنًا أبدًا!. جميعنا، نختار الحبيب ونفضّله على الحقيقة!. جزء من الحب هو هروبنا من الحقيقة أصلًا!.