دورات تدريبيّة!
ـ قبل أيّام، هاتفني صديق. في الواقع هو أستاذ من أساتذتي، لولا أننا عندما نكبر في السِّنّ نُسمّي أساتذتنا: أصدقاء!. نفعل ذلك تأدّبًا وتلطّفًا لا تعاليًا ولا غرورًا!، فمن يتجاوز الخمسين من العمر؛ يخشى، إنْ هو أبقى على مخاطبة أستاذه بهذه الصفة، تذكير الأستاذ بكِبَرِ سنّه ومرور الأيام!.
ـ المهم: هاتفني، يتندّر ساخرًا، ومغتاظًا بعض الشّيء، من هذه الإعلانات التي صار يقرأها كثيرًا، كما يقول، وتتحدّث عن إقامة دورات لتعليم الأدب!. دورات مدفوعة الثمن، لتعليم كتابة الشعر أو القصّة أو الرّواية!.
ـ ولأنها إعلانات تجاريّة بشكل أو بآخر، فهي تكذب!. فيكون أحد معانيها أنّه يمكن لك بعد الاشتراك في الدّورة، وحضورها، والانتهاء منها، أن تكون قاصًّا أو روائيًّا أو شاعرًا!.
ـ شخصيًّا، لم يسبق لي حضور مثل هذه الدّورات، وعليه فإنّ رأيي لا يُمكِن له أن يكون مُحْكَمًا حتى بالنسبة لي!. وقد يتغيّر فيما لو استجدّت لي أمور لا أعلمها حتى الآن بهذا الخصوص!.
ـ رأيي هنا، إذن، قائم على مثلث ليس عندي منه غير ضلعين: اعتقادي الشخصي، وعدم معرفتي بأيّ مبدع حقيقي مِن نتاج هذه الدّورات!. الضلع الثالث، الغائب، هو ما ذكرته قبل قليل من عدم حضوري أي دورة من هذا النوع!.
ـ أوافق أستاذي، وصديقي، الذي لا أذكر اسمه هنا لعدم استئذاني منه في ذلك. ربما لستُ ممتعضًا بالقدر نفسه، لكني أشاركه السّخريّة والتّندّر!. قد لا يكون تندّري برحابة طرافته لكنه لا يقل، وربما يزيد، من حيث الإحساس بتهافت مثل هذه الدورات وبعدم جدواها!.
ـ لو كان الأدب يُعلَّم، بالمعنى المدرسيّ للكلمة، لأنتجت الجامعات شعراء وروائيين وكتّاب قصّة بشهادات رسميّة!.
ـ نعم، المعرفة مهمّة وتفيد، ولا بدّ منها، لكن من قال إن الفنّ معرفة، أو أن الأدب معرفة؟! الفن والأدب إحساس!. والمعرفة قائمة والأحاسيس غائمة على طول الخطّ!.
ـ تحضرني جملة لـ”نابليون” أراها تصحّ على الفنون والآداب أكثر من أي مجال آخر: “ لن يذهب بعيدًا، مَنْ يعرِف مُسْبَقًا إلى أين يذهب”!. بل وأعرف كثيرًا من الموهوبين حقًّا، الذين أعاقتهم معرفتهم، ومَنَعَتهم من الاستمرار!. أقصد ظنّهم بأنهم عرفوا كل شيء في فنّهم ومجالهم الإبداعي!.
ـ الطّبيعي، الذي أفهمه لبساطته المتناهية، هو أنّ من يحبّ شيئًا يتّجه إليه!. وأنّ الحب لا يُدرَّس وأنّ مفاهيمه لا تُلَقَّن!. “يوسا” في “رسائل إلى روائي شاب” يشير إلى أنّ أوّل ما يمكن ملاحظته من الموهبة هو “الميل”!. ميل إنسان ما إلى نوع فنّي أو أدبي معيّن.
وأعترف: لستُ قادرًا على تصوّر إمكانيّة مدرسة أو جامعة أو “دورة تدريب” على خلق مثل هذا الميل!.
ـ حسنًا، سأحاول أن أكون أقلّ حِدّة، فأقول: الولع بقراءة القصص والروايات و”سماع” الشعر وقراءته، يكفي لإيقاظ موهبة الموهوب في مثل هذه الفنون للدخول فيها!. والموهوب حقًّا، يمكنه التّعلّم فيما بعد من كلّ شيء ومن أي شيء، خاصّةً من تلك الأشياء التي لا يُمكن تدريسها!، وإنما تُلتَقط التقاطًا، لا يدري مُلتقطها كيف شَغَفَتْهُ ودخلتْ قلبه واستقرّت في وجدانه فهمًا وإحساسًا!.
ـ كلّ ما عدا ذلك، يصدق فيه قول “هنري ميللر” ويدخل في دائرة استنكاره، إذ يقول هازئًا: “ كامل نظريّتنا عن الثقافة قائمة على الفكرة التّافهة القائلة إنّ علينا أنْ نتعلّم السِّباحة على اليابسة قبل أنْ ننزل إلى المياه”!.
ـ ذكَرْتُ “الإحساس”، وأُنبّه هنا إلى أنني لا أقصد أنّ الشاعر مثلًا، أو الفنّان عمومًا، أكثر “إحساسًا” ولا حتى أصدق من الآخرين. لكن إحساس الفنان عمومًا مرتبط بـ”حساسيّته” في التعامل مع أدواته!. وكلّما دار الحديث حول هذا المفهوم، أضرب هذا المثل: لا يُوجد أعمق ولا أصدق من إحساس أُمّ ترثي ولدها، لكن هذا لا يكفي أبدًا لإيجاد قصيدة جيّدة!. في المقابِل يُمكن لشاعر موهوب كتابة قصيدة رثاء جبّارة في إنسان لا تربطه به علاقة كبيرة ومؤثّرةً!. الفرق هنا في “حساسية” الشاعر مع أدواته لا في “إحساسه”!.
ـ “قفلة”:
أستثني من كلّ الأشكال الفنيّة والأدبيّة، فنّ كتابة “السيناريو”. وأرى أنّه النوع الوحيد، حتى الآن، الذي لا يُمكن البدء فيه أصلًا، دون دراسة، قد تنفع معها “الدورات التدريبيّة”!.