أرض
الخوف!
- لم يُقْدِم داوود عبد السّيّد على إخراج أول فيلم سينمائي له “الصعاليك”، إلّا بعد أن غطّى الشَّيْب رأسه!. لم ينجح الفيلم جماهيريًّا، كما لم يحصد جوائز!. لكنه قدّم مخرجًا بنكهة جديدة عمقًا وفلسفةً!. أخذ داوود عبد السّيّد حقّه كاملًا مكمّلًا من الصِّيت في فيلم “الكيت كات”!. عرف بعدها كيف يُمكن له تقديم أفلام؛ سطحها يقول شيئًا، وأعماقها تقول أشياء وأشياء!.
- كل أفلام داوود عبد السّيّد مشحونة بأسرار كثيفة، ومحفورة إلى أعماق فلسفيّة لا يخيب رجاء من يرتجي منها انبثاق الماء!. ويظلّ فيلم “أرض الخوف” الأقدر دلالة على كشف هذه اللعبة العبقريّة السّاحرة!. لو سألتني، لكان ردّي: “أرض الخوف” هو أحد أعظم ما يمكن لك مشاهدته سينمائيًا على الإطلاق!.
- على السطح: فيلم “أرض الخوف” ليس إلّا فيلمًا “بوليسيًّا” مشوِّقًا. ضابط شرطة يُزرع في عالَم تُجّار المُخدّرات!. لكن مستويات العمق تتالى!.
- مستوى أعمق قليلًا: عمليّة الزّرع إبليسيّة أكثر من كونها “بوليسيّة”!. على الضّابط أن يصير تاجر مخدّرات حقيقةً وفعلًا!. يُعطى الأوامر بحق ارتكاب أي جريمة، مهما كانت بشاعتها، ليدخل أرض تجّار المخدّرات!. عليه مقاومة الشّرطة فيما لو لاحقوه، بل وقتلهم فيما لو لزم الأمر، لأنهم لن يعرفوا عن مهمّته شيئًا، وسيقومون بقتله فيما لو ظفروا به!. كان الاجتماع الذي تمّ فيه التكليف بالمهمّة سريًّا للغاية!. وسيظل كذلك!. بل ولن تتمّ الإشارة له في السِّجلّات الرّسميّة!. والمدّة الزّمنيّة للمهمّة غير محدّدة: العُمر كلّه والحياة بأكملها: “المشكلة الحقيقيّة يا يحيى إنك مش ح تمثّل الفساد.. ده.. مش دور على المسرح.. دي.. حياة”!.
- يخون، يقتل، يسرق، يرتشي، ويتاجر، ويستفحل في الإجرام، ويتوه!. لا يعود قادرًا على معرفة نفسه، أيّ الرجلين هو.. الضابط أم تاجر المخدّرات؟! الخير أم الشّرّ؟!. عين الفساد أم عين على الفساد؟! لو كان أحدهما لهَدَأت نفسه وارتاح باله!. لكنه النقيضين معًا: الخارج عن القانون؛ والقانون نفسه!. القاتل تاجر الموت، ومُرسِل التقارير التي تهب الأمن والحياة!. هل هو خليط مُشَوّه وشبحي من الاثنين معًا أم هو شيء آخر غير كل هذه الأشكال والاحتمالات؟!. يا لغياب الخطّ الفاصل بين الوهم والكذب والحقيقة والصّدق!. من أنا؟! سؤال وجودي، يدسّه الفيلم في أعماق بطل الفيلم وفي أعماق كل مشاهد!.
- مستوى عميق آخر: يُمكن لك، بقليل من التّأمّل وبِنِصْف نباهة أو أكثر قليلًا، ملاحقة البُعد السياسي للفيلم! ففي ظلال كل ما سبق، وما سيأتي، وكخلفيّة للأحداث، وتقويس سياسي لها، يشير الفيلم إلى زمن محدّد: ما بعد النّكسة، حيث المظاهرات الطّلّابيّة من جهة، وحيث الغناء التّعبوي من جهة!. وكأنّ الفنّ نفسه؛ ممثّلًا بعبد الحليم حافظ؛ يمثّل نفس حالة وإشكاليّة البطل، فهو من جهة صوت الحب وهو من جهة أكثر المُخدِّرات انتشارًا!.
- نفتح الأقواس، ونصل إلى الأعمق!. ينفتح الفيلم في هذا المستوى على الإنسان مُنذ خُلِق!. هل تتذكّرون أوّل الحديث، حين قلنا إن الخطّة، والمهمّة، كانت “إبليسيّة” أكثر من كونها “بوليسيّة”!. لم يكن هذا كلامًا عابرًا، ولا مزاحًا لغويًّا!. الفيلم يحكي، بكل ما للشكوك من ضراوة، قصّة الخَلْق!. ويحفر عميقًا في الشّك والإيمان!. يكفي أن ننتبه لأسماء الشخصيّات في الفيلم، وربطها ببعض المشاهد، وقليل من الحوارات، ولسوف نراه رؤية جديدة تمامًا: “آدم”، “يحيى”، “يونس”، “هُدْهُد”، و”موسى”!. السؤال على لسان البطل أول الفيلم: “ممكن اعرف انتم جبتوني هنا ليه”؟!. مشهد خروج المرأة من ظلال الرّجل!، التّفّاحة، صوت الغراب بعد أول عمليّة قتل، “الرّسالة”، وعبارة موظّف مصلحة “البريد”: “أنا مجرّد رسول”!.
- لهذا قلت لكم بالأمس: داوود عبد السّيّد هو “دوستويفسكي” العرب!.