تلسكوب وكاميرا!
- جاءت 2022 بخبرين متنافرين متجاذبين: هناك في البعيد، أطلق تلسكوب “جيمس ويب” أجنحته في الفضاء. وهنا في القريب، كبّل “داود عبد السّيّد” يديه، ورمى بكاميرته السينمائيّة، معلنًا توقّفه واعتزاله!.
ما علاقة “جيمس ويب” بـ”داود عبد السّيّد”؟! كلاهما مخصّص لرؤية الأشياء الدّقيقة!. الحكاية من الأوّل:
- من برنامج الدكتور مصطفى محمود الشهير “العلم والإيمان” أحببتُ الفضاء. كنتُ صغيرًا، وكان المدى ضيّقًا. وبصوته الحنون الدافئ الهادئ.. والأبويّ، كشف لي الدكتور مصطفى محمود كم هي الدّنيا فسيحة، والفضاء عجائبي، مثير إلى أبعد حدّ!. الذين يتابعون بعض حلقات “العلم والإيمان” اليوم عبر اليوتيوب، ربما يجدون معلوماته قديمة، تجاوزتها الأيام والعلوم، لكنها كانت بداية ولعي وشغفي بالكواكب والنجوم والمجرّات!.
- ومن أفلام “نيازي مصطفى” أحببتُ السّينما. أفلام بسيطة وهي اليوم تبدو مضحكة أكثر من كونها مشوّقة، لكنها كانت البداية!. أذكر أنني بكيتُ يوم عرفت أنّ “عنتر بن شداد” ليس هو “عنتر بن شداد”، وأنّ هذا مجرّد تمثيل، بل وأنّ “عنتر” في فيلم “عنتر وعبلة” ليس هو “عنتر” في بقيّة السّلسلة!. عرفت الفرق بين “سراج منير” و”فريد شوقي” مبكّرًا، واحتجتُ وقتًا أطول قليلًا للتفريق بين “فاتن حمامة” و”ماجدة”!. ومن “ماجدة” في “جميلة بوحريد” انطلقتُ نحو سينما “يوسف شاهين”. كنتُ صغيرًا، وكان المدى ضيّقًا. وراحت السينما تكشف لي عن اتساعه، وعجائبيّة أعماق الإنسان!.
- تلسكوب “جيمس ويب” الذي انطلق قبل أيام، ولم يستقر في مداره حتى الآن، بدأ العمل به قبل أكثر من ثلاثين عامًا!. حكاية شبيهة بحكاية داود عبد السّيّد، الذي لم يُقدّم أوّل أفلامه إلا بعد اشتعال الرأس شيبًا!. كلاهما: تلسكوب “جيمس ويب” وكاميرا “داود عبد السّيّد” احتاجا وقتًا طويلًا لإعلان البداية!. زمن طويل من التأمّل والصبر والتدريب والمحاولة!.
- لن أدخل في تفصيلات معقّدة، ومعلومات كثيرة، عن تلسكوب “جيمس ويب”، كما لن أفعل ذلك مع سينما “داود عبد السّيّد”. يكفي أن أقول لكم: عبر هذا التلسكوب، وفيما لو نجحت المهمّة، سيتمكّن الإنسان من رؤية الماضي السّحيق!. رؤية الماضي فعليًّا وليس مجازيًّا. والإنسان عمومًا لا يرى الحاضر أبدًا!. نحن بحكم الضّوء لا نرى غير ماضي الأشياء!. تذكّر دائمًا أنك لا ترى الشمس في حاضرها أبدًا. ما تراه هو ماضيها، الذي حدث قبل أكثر من 8 دقائق!. وقِسْ على ذلك كل شيء!. وبما أنّ تلسكوب الفضاء “جيمس ويب” مؤهّل لرؤية ما يبعد عنّا ببلايين السنين الضوئية، فإننا لن نرى سوى الماضي السّحيق، ومطمع العِلْم أن نرى ولأوّل مرّة، رؤية الكون طفلًا!. رؤيته وهو يتشكّل بعد الانفجار الكبير مباشرةً، ومن يدري؟!.
- سينما “داود عبد السّيّد” تعمّقت في مكنونات النفس البشريّة. عبر كاميرته تمّ تضخيم أصغر وأدقّ المشاعر الإنسانيّة، ليكتشف متتبّعها كم هو الإنسان كون هائل، وكم هو دقيق بيت الشعر: “وتحسب أنك جُرْمٌ صغيرٌ.. وفيك انطوى العالَمُ الأكبَرُ”!.
- كم هو مُبهج، ومشوّق، تتبّع حكاية تلسكوب “جيمس ويب”، وانتظار نتائجه التي يُتَوَقّع لها ومنها الإذهال، حيث معرفة ما سيأتي تمامًا مثل معرفتنا بحالات الطّقس اليوم!. ومعرفة ما يأتي بداية السّيطرة عليه والتّحكّم به، وربما تغييره!. أضف إلى ذلك: هذه أتمّ محاولة إنسانيّة لمعرفة ما إذا كان لنا هناك أقارب أو عقارب في كواكب أخرى!.
- وكم هو محزن، ومُحبِط، إعلان “داود عبد السّيّد” توقّفه، واعتزاله السّينما!. قرار صادم، بحجّة خادعة، وربما كاذبة!، لكنها ليست واهية: تغيّر ذائقة الجمهور!. كلّنا يدري أنه جاء أساسًا، وعمل طويلًا، متحدّيًا هذه الذّائقة، سابحًا عكس تيّارها!.
- الأكيد أنّ “داود عبد السّيّد” كان يتحرّك في نقطة تَعِب طويلًا في الوصول إليها. نقطة تفصله عن الانجذاب إلى أي كُتْلَة يمكنها تغيير مساره والانحراف إليها!. تمامًا مثلما تعب العلماء طويلًا في الوصول إلى نقطة محدّدة في الفضاء يسكنها تلسكوب “جيمس ويب” بحيث لا الشمس ولا الأرض ولا القمر ولا أي كُتلة أُخرى تقدر على جذبه أو التأثير عليه!.
- شهيق انطلاق وزفير انغلاق: هذه هي حال الدّنيا!.