جيسوس.. الحياة بسيطة.. إما الفوز أو الخسارة
عادةً ما تكون الحسابات في نظر مشجع كرة القدم بسيطةً، ليست سهلةً، لكنَّها مفهومةٌ بشكلٍ واضحٍ. تحب فريقك، تكره منافسيك، وعندما يفوز فريقك، يكون ذلك من أجمل المشاعر في العالم، أما عندما يخسر، فسيبدو الذهاب إلى العمل صباح اليوم التالي أصعب قليلًا.
خير من يعرف ذلك البرتغالي جورجي جيسوس، مدرب فريق الهلال الأول لكرة القدم، الذي اختبر حالات الفوز والخسارة أكثر من آلاف المدربين حول العالم، فخلال 35 عامًا، هي مشواره التدريبي، قاد المدرب، الذي احتفل أخيرًا بعيد ميلاده السبعين، 19 فريفًا في تسع تجاربَ، منها ما لم يستمر أكثر من موسمٍ واحدٍ، وفي معظم تجاربه الناجحة، كان الموسم الثاني مختلفًا كليًّا عن الأول.
الصعوبة في الحفاظ على النسق العالي أمرٌ، اعتاد عليه جيسوس، الذي تأرجح كثيرًا بين البداية القوية، ثم التعثر، والرحيل. وأكثر من أي يومٍ آخر خلال الأشهر الأخيرة، جعلت الخسارة من النصر 1ـ3، الجمعة، النهاية تبدو قريبةً للغاية.
قبل نحو شهرٍ، أنقذ الفوز العريض، 4ـ0، الذي حققه الهلال على ضيفه باختاكور الأوزبكي رأس مدربه، إذ كان الخروج المبكر من دوري أبطال آسيا سيجعل استمراره محلَّ شكٍّ كبيرٍ. الخسارة من الغريم التقليدي، والابتعاد أكثر عن المتصدر الاتحاد، أعاداه مجددًا إلى دائرة الخطر.
لا يبدو المدرب المتعطش للفوز دائمًا قريبًا من تحقيق الإنجازات التي حققها الموسم الماضي مع الهلال، والذي فاز خلاله بالدوري، وكأس السوبر، وكأس الملك، وتوَّجَه بالرقم القياسي العالمي في عدد مرات الفوز المتتالي بـ 34 مباراةً، إضافةً لخوضه 57 مواجهةً متتاليةً على المستوى المحلي في جميع البطولات والمسابقات دون أن يستطيع أي فريقٍ هزيمته.
لا شيء في هلال جيسوس الموسم الجاري، يشبه هلال الموسم الماضي. حتى الآن، خسر سبع مبارياتٍ، منها خمسٌ في الدوري، وواحدةٌ في دوري أبطال آسيا، وأخرى في كأس الملك، والأخيرة جرَّدته من لقبٍ، ناله الموسم الماضي، وأصوات عدم الرضا التي أسكتتها الانتصارات عادت لتتعالى مجدَّدًا. المدرب الداهية، خسر من النصر، وقبله الاتحاد، والأهلي، والقادسية، خسر من جميع منافسيه، أمرٌ لم يعتده الهلاليون، ولا يتقبَّلونه بسهولةٍ.
فلسفة جيسوس في اللعب بالضغط على الخصم بشراسةٍ، سعيًا لاستعادة الكرة بأسرعٍ وقتٍ ممكنٍ، ظهرت أكثر وضوحًا مع بنفيكا، يمكن القول إنها نضجت هناك.
فور تعيينه صيف 2009، نجح جيسوس بمفرده في انتشال بنفيكا من أحلك فترةٍ في تاريخه، رافعًا إياه إلى قمة كرة القدم البرتغالية. انتزع الدوري بخسارتين فقط، لينهي سيطرة بورتو على البطولة البرتغالية. غيَّر جيسوس كل ذلك.
في تجربته الأولى مع بنفيكا، بدأ الدوري المحلي، والدوري الأوروبي بقوةٍ. انتهت عديدٌ من المباريات بأكثر من أربعة أهدافٍ، واستمرَّ هذا حتى ضد فرقٍ أعلى من المتوسط مثل دينامو كييف في الدوري الأوروبي، وهو ما دفع النجم الإيطالي نيكولو باريلا، لاعب الوسط الدولي، لأن يصف جيسوس، لاحقًا، بأنه «واحدٌ من أكثر المدربين احترامًا في كرة القدم الحديثة بفضل خبرته التكتيكية، وأسلوبه القيادي، وقدرته على إخراج أفضل ما لدى اللاعبين».
لكنَّ هذا تغيَّر بعد بضعة أشهرٍ. لم يعد الضغط العالي فاعلًا كما كان من قبل، لأن الفرق المحلية درست طريقة جيسوس، وابتكرت تكتيكاتٍ مضادةً لمواجهتها. بعد موسمٍ تاريخي، تراجعت النتائج، فخسِر الفريق لقبه سريعًا، وابتعد عن البطولات ثلاثة مواسم، ولم يتعافَ إلا في موسم 2014، بعد أن حقق بطولة الدوري، وكرَّر ذلك في 2015.
كان تَحوُّل جيسوس للمنافس التقليدي في العاصمة لشبونة حدثًا ثوريًّا. استخدام الأسلوب نفسه في البداية مع سبورتينج. لعِبٌ هجومي مكثَّفٌ مبني على نهجٍ جماعي، ومحاولة خلق ضغطٍ كبيرٍ عندما يهاجم الفريق. بفضل ذلك، فاز بكأس السوبر البرتغالي، لكنَّ الأدوات التي كان يمتلكها، لم تساعده كثيرًا، وفشل في الفوز بأكثر من المركز الثالث في الدوري، ليرحل بعد أن اشتبك مع جماهير النادي غير الراضية عن أسلوبه! قرَّرت إدارة النادي حينها أن الحلم لابد أن يتوقف.
في البرازيل، كان الأمر مختلفًا، ضَمِنَ جيسوس مكانه بين أساطير كرة القدم هناك بعد أن أعاد صياغة فريقٍ لطالما طاردته ذكريات الماضي، وأيام زيكو الأسطورية في الثمانينيات.
على أنغام ترانيم ماراكانا «سيدي.. سيدي»، حصد جيسوس مع فلامنجو لقب الدوري المحلي بسهولةٍ. سيطرا على القارة في نهائي كأس ليبرتادوريس، الذي سيُخلَّد للأبد بسبب مجرياته المثيرة أمام ريفر بليت الأرجنتيني. عدا عن ذلك، في غضون عامٍ واحدٍ فقط، فاز جيسوس بخمسة ألقابٍ، وخسر أربع مبارياتٍ فقط.
لطالما اتَّسمت كرة القدم البرازيلية بطابعٍ محافظٍ للغاية. يمكن القول إن أفكار جيسوس التي حملها معه لبلاد البُن والسامبا، زعزعت قواعد كرة القدم البرازيلية، وقلبتها رأسًا على عقب.
لكنْ، في عام 2020، تغيَّرت الأمور، وتسلَّلت الشكوك. لم يكن زحف فلامنجو نحو لقب كاريوكا، بطولة ولاية ريو دي جانيرو، موضع شكٍّ، لكنَّ رحيل المدافع الإسباني بابلو ماري إلى أرسنال الإنجليزي غيَّر ديناميكيات الفريق بأكمله، ونتيجةً لذلك تكررت قصة بنفيكا بحذافيرها. تباطأت التمريرات، وعرِف الخصوم كيف يوقفون طوفان جيسوس! لم يكن لاعبوه متوافقين تمامًا مع مبادئه. بعد فوزه بلقب دوري كاريوكا المحلي بيومٍ واحدٍ، قرَّر المدرب البرتغالي العودة لبنفيكا مجدَّدًا.
توقَّع جيسوس أن تكون العودة للبرتغال حلًّا لمشكلاته، لكنَّ الأمور اختلفت كثيرًا. طريقته المندفعة، أثارت اللاعبين ضده، وتسبَّبت في مشادةٍ حادةٍ بينه وبين اللاعب البرتغالي بيزي، قائد الفريق، فبدا الوضع مستحيلًا! ومع طريقته الصارمة، والإصرار على الضغط العالي، لم يكن الأمر سهلًا على اللاعبين. حينها ذكرت بعض التقارير في وسائل الإعلام البرتغالية أن جيسوس استقال، بينما زعمت تقاريرُ أخرى أنه فُصِل. في كل الحالات، رحل دون أن يحقق الكثير في مرَّته الثانية.
ثم في تركيا، تكرَّرت القصة ذاتها، لكنْ مع فنربخشة. بعد مبارياتٍ عدة قويةٍ، عرِف الخصوم كيف يوقفون فريق جيسوس. كان عبد الله أفجي، مدرب طرابزون سبور، أول مَن أدرك ذلك عندما قال: «مباراتنا ضد فنربخشة ستكون مرجعًا لجميع الفرق الأخرى». وسرعان ما توالت العثرات في الدوري، لينتهي البرتغالي في المركز الـ 15، لكنَّه نجح في الفوز بكأس تركيا، ليرحل بعد ذلك بيومٍ واحدٍ على الرغم من أنه كسر ابتعاد الفريق عن البطولات المستمر منذ 2015.
كثيرًا ما يتساءل المدربون: ماذا تفعل بنموذجك الخاص عندما يكون لاعبوك غير قادرين على تنفيذ ما خططت له؟ ماذا تفعل عندما يمرُّ الفريق بفترة تراجعٍ في مستواه، أو يواجه منافسةً شرسةً من الخصوم؟ المشجع العادي لا تهمه الأجوبة، يريد الفوز فقط، يثني على مدربه عند فوز فريقه، ثم ينتقده بشدةٍ عند الخسارة. جيسوس سقط غير مرةٍ في هذا الاختبار، فرِح مشجعو بنفيكا بمشاهدة فريقهم يسحق فرقًا أخرى في الدوري البرتغالي، لكنَّهم وجدوا صعوبةً بالغةً في تقبُّل تطبيق جيسوس التكتيكات نفسها في أوروبا، وخروجه من دوري الأبطال مرارًا وتكرارًا. الأمر ذاته مع الهلال، في الموسم الماضي، خسر اللقب الآسيوي، والموسم الجاري، خسِر من باختاكور قبل الرد بالأربعة.
الحُكم على المدربين بناءً على النتائج أسهل بكثيرٍ، هذا ما يحدث دائمًا في النهاية، لكنْ مع جيسوس، تبدو الأمور أكثر تعقيدًا! هل يُنتَقد لعدم استعداده للتغيير، أم يُثنى على شجاعته في التمسُّك بمبادئه مهما كلَّف الأمر؟ أحيانًا، لا يكفي وصف عمل الرجل، أو المرأة بالجيد، أو السيئ.