|


صالح الخليف
المجاملات.. جزء من الصحافة
2020-01-31
الحياة في عمومها وشموليتها وتقلباتها مليئة بالمصداقية ومليئة بالمخادعة ومليئة فيما بينهما.. وما بينهما هذا هو ذاك الذي يسمى مجاملة أو ملاطفة أو جبر خاطر.. والصحافة لا تختلف كثيراً عن هذه الحياة..
إنها وجه من أوجه الدنيا كلها.. في الصحافة هناك مساحة واسعة جداً من قول الحقيقة حتى إن لم يرق كلام مثل هذا للكثيرين وفيها أكاذيب نادرة وقليلة ومتفلتة، وإن لم يرق كلام مثل هذا للكثيرين أيضاً.. هناك بين أخبارها وبين صفحاتها وبين سطورها وبين موادها ترفع المجاملات هاماتها فقط لتؤكد أن هذه المهنة الحيوية متسقة مع الحياة بكل تفاصيلها.. يرزق شاب في تبوك بطفل صغير فتنشر الصحيفة خبراً كهذا وتقول بأنه وعد الزملاء والأصدقاء بوليمة دسمة.. خبر كهذا لا يهم الناس الساكنين في الرياض أو جدة أو بلجرشي.. بل لا يهم الساكنين في نفس حارة الشاب التبوكي..
يحتفل شاب في الدمام بزواجه ويعلن على الملأ أنه سيعيش ليلة العمر ويحقق الحلم الكبير، فتنشر الصحيفة خبراً كهذا وتقول بأنه وجه رقاع الدعوات للأهل والأقارب ومن يهمه أمره ليكونوا بجواره في أسعد أيام حياته.. خبر كهذا بالتأكيد لا يهم رجلاً من أهالي بريدة جالساً ينتظر رحلته إلى الباحة في مطار الملك خالد الدولي بالرياض.. ولا يهم سوى من يعرف العريس والعروسة وما بينهما من أقارب وأصحاب.. وأظن ولعل ظني ليس إثماً بأن الخبر إياه لا يهم كثيرًا من أقاربه وأصحابه..
قبل ثلاثين عاماً أو تزيد كانت بعض الصحف تنشر بإسهاب أخبارًا مثل فلان عاد من رحلته الخارجية بعد أن استمتع بقضاء فصل الصيف في باريس.. وفلان اشترى سيارة جديدة وفلان حصل على ترقية وفلان ينوي تغيير أثاث منزله، وفلان أجرى عملية جراحية ناجحة.. وسيل من أشباه هذه الأخبار التي لا تهم إلا أصحابها..
إنها تندرج فقط تحت مظلة المجاملات التي تتزاحم في طرقات ودروب الحياة.. نعم هي ليست أخباراً وليست أنباءً وليست سوى هوامش على دفاتر الكون.. لا تنشر الصحف كانت وما زالت مثل هذه الأخبار إيماناً بأهميتها وحيويتها وقربها من الناس، لكنها تفعل ذلك من باب يقينها التام أن هذه المهنة كما قلت تأتي انعكاساً واضحاً للدنيا بأسرها التي فيها الصدق وفيها الكذب وفيها المجاملات..
الصحافة تجامل لأنها تعرف أن مساحة المجاملات إنما هي جزء من هذا العالم.. لا أكثر ولا أقل..