إن لم تتفق معي في ما سوف تقرأ اليوم، فأنا مثلك!، ليس لدي من القناعة في سلامة القول أكثر من ستين بالمائة، وهي أيضاً غير خالصةٍ من الظن والإحساس، ومع ذلك أكتب: لخلود الشاعر، خلوداً حقيقياً وفاعلاً، لا يكفي أن يكون لديه نتاج شعري فخم وأصيل فقط!، يلزم أن تكون له حكاية!.
لكل إنسان حكاية، هذا صحيح، والشاعر بصفته إنساناً، لا بد وأن تكون له حكاية، لكني أتحدث عن حكايته داخل أشعاره، حتى لو مرّت خفيفةً وخفيّة، المهم أن تُوجَد وأن تَمُرّ!، ليس هذا تقليلاً من الشعر، بل ربما إن ما أقوله لا علاقة له بالشعر أصلاً، أتحدث عن البقاء، عن بقاء الشاعر حيّاً في الصدور وعلى الألْسِنَة وليس في الكتب ولا في الدراسات!، أحاول تنقية الرأي أكثر: الشعراء الذين يمكن لنا مد خطوط بين قصائدهم، حتى لو كانت خطوطاً وهميّةً من اختراعنا، وهي غالباً كذلك، لكنها توصلنا إلى سرد حكاية أو اختراع حكاية تخصّهم.
يمتلكون دائماً فُرَصَ بقاء أكثر من الشعراء الذين فيما لو حاولنا ربط قصائدهم مع بعضها أو خلطها في بعضها أو إحالتها إلى بعضها، فإننا نعجز عن اكتشاف أو اختراع أو تخيّل حكاياتهم خارج الشعر!، وأعيد وأكرر، أن ذلك لا علاقة له بجودة الشعر ولا أظنه يصح أداةً من أدوات الحكم على النص!، الحديث كله عن الديمومة، في حقلها الإنساني الكبير.
مما لا شك فيه أنه كان هناك شعراء عرب قبل امرئ القيس، لكننا نعتبره أول الشعراء العرب، وأظن أن من أسباب هذا الاعتبار، أنه أول شاعر دخل في حكايته، وأدخلها في شعره، ونحن لحكايته التي تمر في شعره وليس لشعره، نسمّيه: "الملك الضِّلِّيل"!. ولعنترة بن شداد حكايته أيضاً، صحيح أننا اخترعناها تقريباً، لكن قصائده سمحت بنجاحات باهرة لمثل هذه التخيّلات!، وحين نقول إنه لو لم يكتب طَرَفَة بن العبد، غير معلّقته لكفاه، فإنني أظن أن معنا الحق كله في هذا الحكم، ذلك لأن معلّقته أنتجت حكاية، أو قدّمت كل ما يمكنه لتخيّلها، بخصوبة وافرة!، وهي على أية حال، وكما أراها، أجمل المعلّقات، وواحدة من أرقى ما كُتِب في الشعر، وفي المقابل فإنني لم أجد في معلّقة عمرو بن كلثوم، ما يسمح لها فنياً بالانضمام إلى المعلّقات، فإن حُسِبَت منها فهي أقل المعلّقات قيمةً أدبية، لكنها كانت وستظل أقدر المعلقات على سرد حكاية شاعرها.
وفي حين تحتفظ الدراسات، ويقدّر أهل الأدب، فخامة "أبو تمّام"، إلا أنه أقل حضوراً عند الناس وبينهم من أبي نواس ومن المتنبّي، ذلك لأن شعره لا يسمح بسرد حكايته، كما هي الحال مع أبي نواس والمتنبّي، رغم قناعتي أن الثلاثة أدبياً وفنياً يشكلون، كلاً من جهته، أعظم تجربة شعرية عربية على الإطلاق!.
ويبدو أننا سعداء الحظ فعلاً، فمعظم الشعراء الذين أوجدوا، أو سمحوا لنا بإيجاد، حكاياتهم، كانوا شعراء كباراً، أو لعلّ هذه صفة في الشعراء الكبار، وليست مسألة حظ، الله أعلم.