|


فهد عافت
الوزن العاطفي!
2017-03-25

ـ كان الشاعر طلال الرشيد ـ رحمه الله ـ يضرب على أصابعه ليُقِيم الوزن، أو هكذا كان يبدو الأمر لمن عرفوه عن قرب، ظنّي أن المسألة لم تكن لضبط إيقاع شعري، لكنها كانت تنغيماً داخلياً يُحاوِل الشاعر أن يُمسك به من الخارج!.

 

ـ الشعراء الأكثر رهافةً، وقد كان طلال الرشيد منهم دون شك، تبدأ قصائدهم عاريةً إلا من الموسيقى، والموسيقى عارية بطبعها أيضاً، خاصة حين تكون في الذهن، وحين يبدأ الشاعر بالتقاط ترنيمات خارجية، عبر الحنجرة أو طَرْق أصابع على طاولة، أو ما شابه، فإنه يستدعيها للخروج، للتّمظهر!، لقبول شكل ما، أقل تجريديّة، رغم بقاء الموسيقى في عالم التجريد وقوانينه على طول الخط، لكن قليلاً من الرياضيّات يُخرجها فعلاً، يُحرّكها وينقلها من التوهّم إلى الظن، ثم من الظّن إلى التحقق، حتى لو انعدمت إمكانيّة الملامسة والشرح!.

 

ـ تُكتَب القصيدة قبل أن تُكتَب!.

 

- تتوطّن وتُنفَى قبل الكلمات!.

 

- ومرّةً سُئل بدر بن عبدالمحسن فأجاب ما معناه: مشاريع قصائد كثيرة أمّزق أوراقها في رأسي قبل أن أحتاج إلى كتابتها لأمزّق أوراقها على الطاولة!، 

هذا هو النفي المُقابِل للتوطين الذي يتم عبر غواية الموسيقى المُستَجلَبَة بأي طريقة يحبها الشاعر، ومنها النَّقْر على طاولة، أو حتى على مخدّة!.

 

 

ـ لا يهم أن يكون الإيقاع مسموعاً من الخارج، الضرب الخفيف حتى على مخدّة من ريش النّعام يكفي، ذلك لأن الشاعر لا يهدف هنا إلى إيقاظ مَنْ بجانبه مِن النوم!، ولكنه يُوقظ قصيدته، والقصيدة في القلب وليست في الجَنْب!.

 

ـ في الشعر: الكلمة خارج الموسيقى، لا يُمكن لها أن تكشف عن كل مزاياها، والموسيقى قد تحضر دون كلمات، هي في أصلها دون كلمات، لكن لكل كلمة موسيقاها، مثلما أن لكل كلمة احتمالات موسيقيّة أخرى غير تلك التي يقترحها العقل وتؤيّدها الرّياضيّات من أول مرّة!.

 

ـ والأعجوبة في صنعة الشعر، تكمن في قدرة الشاعر على خطف اللحظة الموسيقية الوافية بوعودها في تلاقح الموسيقى عاريةً من الكلمات، مع الكلمات المُحمّلة بتجليّات موسيقيّة في باطنها العميق!، في تحويل الرياضة إلى رياضيّات وتحويل الرياضيّات إلى رياضة، والخروج بِرِياض!.

 

 

ـ البحر الشعري، الوزن الظاهر والإيقاع المحسوب، لا يكفي لتشابه قصيدتين، حتى من ناحية اللحن، يمكن نعم للّحن نفسه أن يستقيم على قصيدتين عموديّتين سابحتين في "بحر" واحد، لكن الاستقامة ليست فنّاً بالضرورة!.

 

ـ ويحدث كثيراً أن يستمع أحدنا لقصيدة نبطية مغناة على لحن ثم يقول ويكون مُحقّاً: اللحن غير مُناسِب للكلمات!، بالعاميّة: "مهو راكب"!، وهذا القول هو من الأدلّة القاطعة على أن لكلمات القصيدة لحناً خاصاً بها، لحناً عاطفياً في العميق العميق منها، في باطنها، غير اللحن الذي تتفّق معه الحسابات والتفعيلات.

 

ـ وسأضرب مثلاً بسيطاً لتبيان الأمر: الإيقاع الخارجي لـ "لا تضايقون الترف لا تضايقونه" مثلاً، هو ذاته الإيقاع الخارجي لـ "البارحة يوم الخلايق نياما"، وعليه فإنه يُمكن حسابياً غناء كل واحدة بلحن الأخرى، وسيكون الأمر مُستقيماً تماماً، لكن هذه الهندسة الحسابية لا تكفي ولا تفي بغرض، ذلك لأن لكل قصيدة من القصيدتين لحنها أو ألحانها الداخليّة التي قد تتمدّد وتتنوّع، لكنها حين تصل إلى حدود صاحبتها تتوقّف، الاستقامة الوزنية هنا تتعارض مع الميل الموسيقي العاطفي الذي تبثّه كلمات الأبيات هنا وهناك، حتى إن كان البحر واحدًا!.

 

ـ مثل هذه الحقيقة يجهلها المُقلِّد!، بلادة حِسّه لا تستوعب الأمر، ثم إنه بالكاد يحاول حجب سرقة المعنى دون جدوى، فما بالك بما هو أعمق وأدقّ وأرقّ؟!.