ـ في ما تكتب، هناك من يقرأ ما لم تكتب، لأنه قارئ حقيقي يَحْفِر المعنى ويبني التأويل!،..
ـ مثل هذا القارئ يستأهل التقدير، وعلى الكاتب أن يمنحه التكريم اللازم حتى قبل أن يعرفه، يتخيّل وجوده قبل أن يشرع في الكتابة نفسها، والكاتب الحقيقي يهتم بالأمر، ولعل المراجعات والشطب والتعديل والإضافة كثيراً ما تكون بسبب من تعامل الكاتب المُسبَق والمُتَخَيَّل مع هذا القارئ!..
ـ يظلّ القارئ مُتَخَيَّلاً لكن التعامل معه يكون حقيقيٌاً وأصيلاً!،..
ـ ومن الأفضل أن يظل الأمر على هذا النحو، أي أن يظل القارئ في خيال الكاتب، وهي مهمّة لذيذة لكنها صعبة وشاقّة، بل وآيلة للسقوط في أوقات وظروف كثيرة، خاصّة في تلك الأوقات السعيدة والظروف الطّيِّبة التي تجمع الكاتب، أو تُعَرِّفه، على قارئ حقيقي مُحِب ونَشِط ومُحَرِّض!..
ـ يحدث أن يستسلم الكاتب في مثل هذه الحالات لمزاج وأُفُق وتطلّعات هذا القارئ الحقيقي والجميل، خاصّةً إن تم تجريب هذا القارئ مرّات عديدة، وفي كل مرّة يُسقِط فيها هذا القارئ شيئاً من ذاته على النص، فتكون مُحصِّلَة التأويل والإضافة خصبة، كما اشتهى الكاتب، وأحياناً فوق ظنون هذا الكاتب بنصّه!..
ـ مثل هؤلاء القُرّاء لا يحظى الكاتب عادةً بكثيرين منهم، وهو محظوظ إن صادف واحداً منهم كل خمس أو ست سنين في حياته!، لكن عليه أن ينتبه للأذيّة التي لا دخل للقرّاء الرائعين فيها، لكنها قد تحدث: أذيّة الاستسلام الدّائم لذائقتهم والرّكون الأبدي لحُكمهم، أو لما يظن أنه ذائقة وحكم!،..
ـ فالقارئ الجيّد والحقيقي يتطوّر وبسرعة أكبر من تطوّر الكاتب في أحيان كثيرة، وأكاد أقول دائمة!،..
ـ كما أن القارئ الرائع هَجُور لكل كتابة يشعر أنها إنّما أُنجِزَت لتُرْضِيه لا لتتأمّل معه بكامل حرّيتها وانفلاتها عنه، وتتركه يتأمّل معها بكامل حرّيته وانفلاته عنها أيضاً!،..
ـ القارئ المبدع هو قارئ صِحّي وغير مُدَلَّل!..
يحب من يثق بصحّته نفسيّاً وفكريّاً، ويكشف دغدغة المشاعر برهافة حسٍّ تغتاظ من هذه الدّغدغة التي تُعامِله كمريض أو كزبون!..
ـ استسلام الكاتب الجيّد لمثل هذا القارئ الجيّد، سَيُفقده هذا القارئ غالباً، ولسوف يَدْخُل هذا الكاتب في مرحلة نفسية شائكة ومُعقّدة، قد تذهب به إلى محاولات تعويض خائبة، يستجدي فيها مؤازرة قرّاء عابرين، قيمتهم في العدد وليس في العُدَّة!..
ـ شيء آخر يستأهل الانتباه:
هناك من يقرأ في ما تكتب ما لم تكتب، فقط لأنه ضدك، أو لاستعراض عضلاته، أو لأي نقيصة أخرى فيه!،..
ـ والمسألة بسيطة إذ ما مِن كتابة بشرية قادرة على أن تُحيط بكل شيء!..
ـ هذا النوع من القرّاء، مريض ويِمْرِض!،..
ولديه دائماً ما يقوله، والمصيبة أن في قوله جزء من الحق!..
ـ خذ أي موضوع واكتب عنه، لنفترض أنك تكتب عن الكلاسيكو بين ريال مدريد وبرشلونة، يمكن لهذا القارئ العِلَّة!، أن يقرأ ما لم تكتب على طريقته المريضة، كأن يقول لك: لكنك لم تتحدث عن احتمال الانقسام السياسي المحتمل في إسبانيا!، فإن كنت تحدثت، فلسوف يقول: لكنك لم تتحدث عن آثار مثل هذا الانقسام على العُملة الأوروبيّة الموحّدة!، وهكذا وهكذا إلى ما لا نهاية!..
ـ تكثر مثل هذه النوعية من القرّاء المُمْرِضِين، وسط أصحاب مهنة الكتابة نفسها وبين زملاء العمل الإعلامي نفسه!، نتيجة بُغْض أو حسد أو غِيرة أو محاولة لفت انتباهٍ مُتَسَلِّقة!..
ـ لمثل هؤلاء لا يجب أن تلتفت أبداً، صبرٌ جميل والله المستعان!..
ـ ومن المهم تمييز الفرق بين هذين النوعين من القرّاء، فهو وإن كان شاسعاً إلا أنه مُلتَبِس أو قابل للالتباس:
الأول يريد أن يصيد، الآخر يريد أن يتصيّد!.