ـ العمل الفنّي والأدبي المُثقل بالأيدولوجيا، للدرجة التي لا يُمكن إلا الشعور بحضورها، وتحمّل ثقلها، هو عمل آيل للسقوط إلا فيما ندر، مثلما هو آيلٌ للانزواء حتى فيما ندر، تقول لي: حتى رواية الأم لمكسيم غوركي، أقول لك: أظن نعم حتى رواية الأم!.
ـ ما الذي يبقى إذن؟!، يبقى كل عمل جيّد نجح عبر مراوغاته وحِيَله وعاطفته في إخفاء الحس الأيدولوجي، في إفناء شعاراته، وفي إرجاع أهميّته إلى أبعد حد ممكن.
ـ العمل الأدبي ماء، وليس مَرَقة!، تقول لي: لكنه مَرَقة، وأمشي معك، لكن الطبخة الفنيّة لها شروطها للدخول في رهانات البقاء والخلود، ومن شروطها كثرة المقادير؛ حتى لا تكاد تعرف لها اسماً من نوع واحد، ووفرة الماء فيها تُمكِّن من أتى، ولمن يأتي، أن يغرف منها!.
يبدو أنني أكتب هذه المقالة وأنا جائع!، حتى إنه يُمكن لكلمة "سُلْطة" المقبلة أن تُقرأ: سَلَطَة!، لكن:
ـ مما لا شكّ فيه أن للروائي سُلْطَة ما، على القارئ، وهي مقبولة ومُتفّقٌ عليها سَلَفاً، لكن السُّلْطة شيء والتّسَلّط شيء آخر!، وليس إقحام المذهب الأيدولوجي شيئاً غير تسلّط لا تُحمَد عُقْباه!.
ـ سُلْطَة الروائي شرط من شروط الأسلوب، وهو شرط مقبول كوسيلة من وسائل القراءة،
بمعنى أبسط: فيما لو قرأنا في رواية أن: "س" من الناس ذهب حزيناً بعد نصيحة صديقه المُخلِص، فإننا مجبرون فنّيّاً على قبول العبارة كحقيقة، أو على الأقل فإننا نقبل جزءاً من القول على أنه حقيقة خالصة، فما دام الرّاوي قد أخبرنا بأن "س" ذهب حزيناً، فالشرط الرّوائي يُلزمنا بتصديق ثلاثة أمور: أولاً أنه "س"، وثانياً أنه "ذهب"، وثالثاً أنه ذهب "حزيناً"!، أي تشكيك في هذه الحقائق الثلاثة يضرب القصة في مقتل!،
بعد ذلك يمكن لنا تصديق أو التشكيك في أو تكذيب بقية السرد، فربما لم تكن "نصيحة"، وربما لم يكن قائلها "صديقاً"، وربما لا يكون "مخلصاً"!،
هذه تركيبات قد تتهاوى وقد تتماسك بحسب لغة الروائي وأسلوبه وحبكته، فقد يقولها ساخراً مما ينسف حقيقتها بقصديّة!، وفي كل تصديق وتشكك وتكذيب هنا يمكن رصد سُلْطَة الروائي على القارئ وقبولها، كميثاق أدبي يتطلبه الفن الروائي نفسه!.
ـ لا تُشكِّل هذه السُّلْطَة عائقاً؛ لأنها لم تصل بعد حد التّسَلّط!، المُتمثِّل بفرض أيدولوجيا ومذهب سياسي أو عقائدي وطرحه كحقيقة خالصة، وكل ما سواها وهم وطالح!.
ـ في مثل هذه الإضافة المخزية للعمل الروائي يكمن ثُقْل قاتل، لا يمكن معه لعمل روائي القفز فوق الزمن لمسافات بعيدة، ذلك أنه مُعدّ سَلَفاً لملء فراغ مُحدَّد في زمن مُحدَّد!.
ـ ومهما كانت القضيّة شريفة، فإن تمريرها عبر أيدولوجيا فاقعة، والدفاع عنها بركوب الفن الروائي، أو الفن عموماً، وبتحويل غايات الفن إلى وسائل، أمر مآله الفشل على المدى البعيد، مهما لقي من مجاملات وقتية ومساندات إعلاميّة أثناء صدوره، بل مهما لقي من تعاطفات إنسانيّة معه نتيجة قمعه ورفضه ومنعه من التداول بعد صدوره مباشرةً، ولأسباب أيدولوجيّة أيضاً: رفض القمع لا يعني شهادة له بالعمق!.
ـ مشكلة الأيدولوجيا ليست في أنها "مع" فكرة أو اتجاه، مشكلتها أنها "ضد" أفكار واتّجاهات أخرى كثيرة!، هذه الضّديّة، هذه الـ"لا" المنتفخة هي التي لا يقبلها الفن، وإلّا لما كان فنّاً!.
ـ كثير من أهل الفكر السياسي والمِعتقد الأيدولوجي يدخلون الفن الروائي بهدف تمرير معتقداتهم عن طريق التنويع، تنويع أشكال العرض، وبمساعدة غوغائية، رافضة أو مُسَانِدة، يحققون شهرة ما ونجاحاً مؤقّتاً، ينتقلون من كتابة المقالة، والبحث، والمحاضرات والمناظرات السياسية، إلى الفن، هذا الذي يظنونه ضعيفاً ومسكيناً ويمكن ركوبه وتسخيره بسهولة.
ـ ولأن الفن قوي فهو متسامح، ولأنه متسامح فهو يسمح لهم بالدخول، لكن لأنه أصيل وراسخ وشديد الحساسية والفطنة، فإنه يطردهم خارج حدوده، يركلهم ركلاً، ويجبرهم على قراءة اللافتة من جديد:
ـ في الفن عموماً، وفي الفن الروائي خاصّةً، يُقبل دخولك بمعتقدك ومذهبك واتجاهك السياسي، لا بأس في ألا يغيب، لكن البؤس كله في ألا يختفي، كن كالهواء: حاضرًا لكنه لا يُرى، كن كالماء لا لون له ولا طعم ولا رائحة، لكن منه خُلِق كل شيء حي!.
ـ افهم ثم بعد ذلك كُن، لن تكون ما لم تفهم!.