|


فهد عافت
أعرج وأعمى!
2017-04-05

ـ كان بودّي، لكنني لا أستطيع وصف نفسي بالقارئ الفخم، ليس تواضعاً ولكن لأنها الحقيقة شديدة المرارة!، فأنا لا أقرأ بغير اللغة العربيّة، في حين أن أهم الكتب ليست عربيّة للأسف، ما قرأته مترجماً يؤكد ذلك.


ـ والترجمة ليست قراءة من كتابة ولكنها قراءة من قراءة!.


ـ المُترجِم يمكنه أن يكون قارئاً فخماً، أقول يُمكنه ولا أقول أنه بالضرورة قارئ فخم!، لكن من لا يقرأ من اللغة الأصليّة لا يمكنه أن يكون كذلك إلا في حالات نادرة لا أضمن دخولي في دائرتها وأشك فيه!، ونعم في هذا القول الأخير قليل من التواضع لأن نفسي تحرّضني على الدفاع عن تجربتها القرائية بعنفوان أُفَضِّلُ كبحه!، لكن التفضيل هنا منبعه القلق وليس الخُلُق!، لذلك يمكن سحب حتى كلمة الـ" قليل من التواضع " بقليل من التواضع الذي أظنه هذه المرّة أخلاقياً!.


ـ لم أكن بحاجة وقت طويل لأعرف أن أهم ما في التعليم: الرياضيّات واللغة الإنجليزيّة!، وأن بقيّة الأمور يتوجّب طرحها نعم، لكن يمكن لها أن تُكتسب بالفطرة والمعيشة والتّدرّج والتخصص والممارسة والبحث البسيط والسؤال العابر!، وأن التعليم يمكنه الاكتفاء بقليل منها، بالمبادئ العامّة وإشارات خفيفة وتنبيهات لطيفة ليس إلّا، على الأقل هذا ما أظن وجوب توفّره حتى سن الثامنة عشرة لكل تلميذ، مثلما أظن أن شابّاً في الثامنة عشرة من عمره لا يعرف الرياضيّات ولا لغة واحدة أخرى غير لغته الأصليّة، إنما هو غير مُحصّن بأسلحة حقيقية لمواجهة الحياة في زمننا هذا!، وأن عليه القيام بالكثير مما كان واجباً تعليميّاً ولم تقم به المؤسسة الرسميّة على أكمل وجه!.


ـ لستُ متأكِّداً، لكنني أظن أن تعلّم لغة أجنبيّة واحدة يُمكنه أن يُنشِّط المخ ويجعله قادراً على تعلّم لغات أخرى بسهولة ودون مشقّة كبيرة، ومرجع ظني هذا هو أنني صحبت عدداً كبيراً من الناس الذين يتحدثون الإنجليزية بطلاقة، ووجدتهم جميعاً، تقريباً، يتحدثون لغات أخرى، أو يسهل عليهم في أيام قليلة التقاط كلمات وعبارات كافية للتفاهم والتعامل مع آخرين بلغات أخرى كالفرنسيّة والإسبانيّة والألمانيّة وغيرها أيضاً، وأعتذر لأنني استطردت كثيراً، وشططت عن الموضوع الأصلي، لكني سأحاول الاستفادة من هذا الاستطراد بجملة أخيرة: لا دليل أوضح على معرفتك للغة ما، وتمكّنك منها، أكثر من قدرتك على الاستطراد فيها!.


ـ نرجع لموضوعنا: قراءة الترجمات، قراءة مفيدة ونابضة، لا يمكنني إنكار متعتها وفائدتها، لكنها قراءة من قراءة!، فالمُترجِم قارئ، كان يجب أن يكون مثلي مثله، لكنني قَصُرْتُ وأَتَمَّ!.


ـ كثير ممّن يُترجمون الشعر يصيبونني بغثيان وحسرة حارقة، ومن الواضح أن السبب في ذلك أنني شاعر أيضاً، وكثيراً ما أشعر في داخلي أن هذه الجُملة الشعريّة المُترجَمَة ليست هي الجُمْلة في الأصل، أستطيع بحدسي تخيّل الجملة الأصليّة، أغيّر موقع الكلمات أو أقترح كلمة بدل كلمة أو أضيف أو أحذف حرفاً أو حرفين فتتدفّق طاقة القول الشعري الذي هو ليس لي ولا هو للمُتَرجِم ولا ضمانات أكيدة على أنه للشاعر الأصلي أيضاً!.


ـ ما يحدث لي مع الشعر المُترجَم، لا يحدث مع الرواية والقصّة، ولكنه قد يحدث مع المسرحيّات المُترجمة، ذلك لأنها تعتمد الحوار، والحوار يحمل عادةً دفقة شعريّة وإغواء عاطفيا!.


ـ في الرواية، أنا مُجبَر على دمج مجموعة من الأمور، لكل منها إجراءه الخاص، لكنني أطحن الإجراءات والأمور كلها معاً: لغة الكاتب ومقصده وتأويلاته وإحالاته مع فهم المُترجِم لكل هذا مضاف إليه لغته وما يمكن لي منحه لهذه اللغة وما يمكن لهذه اللغة منحه لي من تأويلات وإحالات!.


ـ بالرغم من ذلك يُمكن للرواية أن تُبقي على جماليات عديدة أثناء ترجمتها، على الأقل هي مهيّأة لفعل ذلك أكثر من الشعر بكثير!.


ـ نادرة وقليلة، وفي حالات كثيرة لا قيمة لها، تلك العبارات التي لا تحتمل غير معنى واحد!.


ـ حتى أبسط الجُمَل تحتمل عادةً معنَيَيْن أو أكثر!، وهنا يَكمن الأسى بالنسبة لقارئ أعرج مثلي، فالمُترجِم مجبر على انتقاء معنى من القول الأصلي، وأنا مجبر على قبول هذا الانتقاء، ومُعاملته على أنه الجِذْر والأساس، واللعب على أرضه، وعلى ما يسمح وما يسبح به من تأويلات، حسب الطّاقة والعلاقة!.


ـ الذي لا يعرف غير لغة واحدة، ينهل منها، ليس أعرجاً فقط، أمام كل كتاب مترجم للعربية أشعر أنني أعمى أيضاً!، أعمى حقيقي، يقوده المُترجِم ويعبر به الطريق، وأي طريق؟، الطريق التي يريدها المُترجِم لي!، إذ ليس بإمكاني غير قراءة ما تخيّر هو من الكتب والمؤلّفات لترجمتها!، أنا بحكم العَرَج والعمى لا أقدر على المشي في غير دربه، ورؤية ما أراد لي أن أراه، يصفه لي وأشكر دقّة الوصف ومرونته، أمّا ما غفل أو تغافل عنه أو رفض ترجمته فهو بالنسبة لي غير موجود!.


ـ و كثيراً ما تخيّلت كتباً تتزيّن لي عُمراً كاملاً، تحافظ على صِباها وجمالها وأسرارها من أجلي، تمرّ من أمامي، تريد كلمة غزل واحدة وعلاقة حب، وتتحسّر لما تظنّه عدم انتباه أو إهمال أو غفلة أو تغافل، يحزنها تجاهلي ولا تدري أنه جهل لا تجاهل، أنه عمى.. عمى!.