|


فهد عافت
القهوة المُرَّة أحلى!
2017-04-09

- أركب السّيّارة لأصل أو أتحاشاها لأسلم!، التلفزيون للمشاهدة، والثوب لأرتديه، والساعة لأعرف الوقت: هذه النظرة هي ما يمكن تسميتها بالنظرة العمليَّة، وهي مختلفة، أو يجب أن تكون مختلفة تماماً، عن النظرة الأدبيّة، التي تبدأ أول ما تبدأ بالذَّوق. 



- ففي حين تكون النظرة العمليّة للاستعمال، أو محكومة أولاً وقبل كل شيء بالمنفعة المرجوّة من الشيء، مثل أن القلم للكتابة، والسيارة لقطع المسافة في وقت أقصر، وأن غياب هذه المنفعة المرجوّة مُسْبَقاً، يعني فشل المادّة وخيبة الصناعة، فشل وخيبة وأخطاء لا تفيد معها أي تحسينات جماليّة، لا للسيارة ولا للقلم ولا لغيرهما، فإن نظرة الذّوق مختلفة تماماً.



- لنشرب فنجان قهوة، ونتحدث، عن ماذا؟، عن القهوة نفسها، أظن أن في ذلك مثالاً طيّبًا لشرح النظرتين، القهوة تحيلنا إلى حاجتين، إلى نظرة عمليّة، ونظرة أُخرى ذوقيّة، النظرة العمليّة هنا في: طبيعة القهوة، والذوق في: علاقتك وعلاقتي معها!.



- النظرة العمليّة يمكن الاتفاق عليها بسهولة حتى لو تعددت الأغراض، أولاً نتفق على أن ما نشربه قهوة فعلاً، هذه ليست فيها خلافات حادة، ثانياً الغرض منها، وهذه يمكن لملمتها بين قوسين: "للصَّحيان، لتحسين المزاج، للتعوّد، لطبيعة اجتماعيّة،... وهذه الأيام للتصوير!"، يمكنك إضافة أسباب أخرى، المهم أن الأسباب هنا تتعدّد ولكنها لا تتعارض ولا تتناقض، بل ربما اجتمعت كلها عند كثيرين!، هذه نظرة عمليّة.

 

- أمّا نظرة الذّوق فتأتي لاحقاً، في أنني مثلاً أُفضِّلها مُرَّة، بينما يفضّلها غيري حُلْوَة!، متى بدأ الذَّوق هنا؟!، بدأ من إمكانيّة الاعتراض على كلمتي "حُلْوَة" و"مُرَّة"!، ذلك لأنه يمكن لي القول: "القهوة المُرَّة أحلى"!، هذا ذوقي!، الذي قد يتعارض مع ذوق صاحبي، يتناقض معه، لكنه لا ينقضه، ليس من حقي هنا نقض ورفض الذوق الآخر، مثلما أنه ليس من حقّه إيذائي بفرض ذوقه عليَّ!.

 


- ومثلما أنّ النظرة العمليّة شيء، والذوق شيء آخر، فإن الحُكْم النقدي الفني أو الجمالي شيء آخر ومختلف عنهما معاً!، لكنه يظل قريباً من الذوق.

 



- حين نتحدث عن عمل فني أو أدبي حديثاً أدبياً وفنيّاً، فإنه يمكن القفز بل ربما يتوجّب القفز على النظرة العمليّة كلّها، أمّا الذَّوْق فمسألة لا يمكن تركها، لكنها لا تكفي أبداً للحكم الفنّي، هي بالكاد تُشكِّل حروفه الأبجديّة، لكنها ليست كلماته ولا جُمَله، هي الأرقام لكنها ليست الأعداد ولا النتيجة، لا بُدَّ من الذوق لكنه لا يكفي!.

 


- بدءاً من الذَّوق نحن نختلف، ومع الأسف فإن ما لا نفعله هو أننا لا نتنبّه إلى أن مثل هذا الاختلاف في الذوق ليس مُضِرّاً، ولا مُعطِّلاً، وبعدم الانتباه لهذا الأمر البسيط نقلب مَسَرّات كثيرة فيه إلى مَضَرَّات نحسب أنها بسببه، بينما هي نتيجة سوء تقديرنا وغفلتنا ليس إلّا!.

 


- نُلخبِط الحِسبة منذ البدء بخلط نظرتنا العمليّة للأشياء وبين ذوقنا فيها!، الأمر الذي يقفز أول ما يقفز بالذوق إلى حُكم أخلاقي أو اجتماعي أو سياسي، أو أي حكم غير أدبي وغير فنّي، مع ظننا أنه حكم فني وأدبي على عمل فني أو أدبي!.

 


- الحكم الفنّي يبدأ "الحَبْوَ" عن طريق الاتفاق العام حول طبيعة العمل الفنّي، بدءاً من وسائطه الماديّة، فالقصيدة كلمة، والرّسم لون، والمسرح خَشَبَة، والموسيقى آلَة، والغناء حُنجرة، والسينما ضوء، والنَّحْتُ كُتْلَة!.



- ما لا كلمات فيه، كلمة واحدة على الأقل، ليس شعراً، وما ليس كُتْلَةً لا يمكنه أن يكون منحوتةً، هذه الوسائط الماديّة بداية طريق الحُكْم الفنّي، بداية "الحَبْو" فيه، ونتدرّج شيئاً فشيئاً إلى أن يُصبح الحَبْو مَشْياً!.

 


- في مواجهة الفن والأدب: النظرة العمليّة مُلغاة، وإلا فنحن نسير في الاتجاه الخطأ، ذلك أنها نظرة استعمال، بينما النظرة الفنيّة نظرة تأويل!، وبينهما الذوق الذي هو شخصي بطبيعته، والذي ما أن نعجز عن تخليصه من النظرة العمليّة حتى نعجز عن التخلّص منه وقت الحاجة في النظرة الأدبيّة والفنيّة.

 


- معظم اختلافاتنا نتيجة سوء فهم، والاختلافات نيّرة ومفيدة، بل رحمة، شرط ألا تكون نتيجة سوء فهم وقصور!، أظن أننا لذلك نختلف مع بعضنا أكثر من الآخرين، لكننا لا نتقدّم أسرع منهم ولا مثلهم، ربما لا نتقدّم أساساً!.