ـ يُعرّف الفن على أنه كذبة، سبق أن نبّهت إلى أن هذا التعريف تعريف فنّي أيضاً، بمعنى أنه كذبة أيضاً!.
ـ الفن كذبة، ليس لأنه يقلب الحقيقة، لكن لأنه يغلبها!.
ـ يَغلبُ الفنُّ الحقيقةَ، لأنه ينجح في اختصارها و في تكثيفها و في الإيماءة لمضمونها و ماهيّتها، و لأنه ينجح أيضاً في نشر طاقتها الكامنة، و في مُضاعفة هذه الطّاقة مرّات و مرّات!.
ـ وهو لكي يفلح في الاختصار، يلجأ لمجموعة كبيرة من الحِيَل، بما في ذلك تغيير الأحداث، كما فعل فولتير مثلاً في حكاية اكتشاف نيوتن للجاذبيّة الأرضيّة، عبر سقوط تفّاحة: حكاية لم تحدث، حكاها فولتير لطفلة، لكنها اختصرت الموضوع برمّته، و أعجبت الناس، فاتخذوها أصلاً، و اعتبروا أن ذلك ما حدث فعلاً!.
ـ في ستّة أسابيع فقط كتب غوتة أولى رواياته، لم يكن يعرف أن "آلام فرتر" ستتسبب في انتحار عدد كبير من قرّائها!، من الواضح أن الرواية صادفت مزاجا رومانسيا محبطا!، لكن و إلى هذا اليوم، فإن كل من يقرأ الرواية يُصدِّق أحداثها و يؤمن بحضور شخصياتها.
ـ مسألة التصديق و الوثوق و الإيمان بالحضور الحقيقي للشخصيات الروائيّة مسألة شبه حتميّة مع كل عمل روائي مُعْتَبَر، دون حاجة لتوثيقه بانتحار أو غيره، إذ أن هذه طبيعة قرائيّة، ناتجة عن طبيعة التواطؤ الفنّي في تلقّي الآداب و الفنون، لولا هذا التواطؤ المُتفق عليه كطبيعة تلقّ، لما أمكن لنا مثلاً الحزن أو الفرح لأن بطل الفيلم السينمائي فقد أو وجد حبيبته في المشهد الأخير من الفيلم، نفرح و نحزن حقيقةً لا زيفاً رغم علمنا المُسبق بأنه تمثيل و أنه "كذبة"!، لو ظللنا نفكر بكاميرات المصورين و إشارات المخرج لما أمكننا التفاعل و لا الاستمتاع!.
ـ نحن نعرف أنه ليست هناك موسيقى تصويرية في الحياة، لكننا نتعامل معها في السينما بتقدير و تأثّر، لماذا؟، لأنها تكثّّف الحقيقة، تغلبها و لا تقلبها!.
ـ مدام بوفاري ماتت بالسم، قررت إنهاء حياتها بهذه الطريقة، و نحن نصدّق ذلك،أكثر من تصديقنا مثلاً لموت هتلر!، هنا يغلب الفن الحقيقة!، و لعل أمبرتو إيكو أحد أطيب من تحدثوا عن مثل هذه الغلبة، و قدموا لها شرحاً وتشريحاً رائعين، فالعمل الفني، الروائي أكثر من غيره، ينهض بما يسميه إيكو " تعطيل الشك"!، بمعنى أننا نصدّق ما تطرحه لنا الرواية كشرط قرائي، فما دام فلوبير كتب أن مدام بوفاري ابتلعت السم فقد ابتلعته، لا يمكن لقارئ الاعتراض و القول بأنها لم تفعل، أو بأنها ظلّت حيّة و هربت مع عشيق جديد لها!، هنا يكون الشك مُعطلاً، بينما في الحياة الحقيقية يصعب تعطيل الشك، يمكن لأي وثيقة أن تظهر فنتشكك في نهاية هتلر أو أي شخصية حقيقية بمعلومات تاريخية و ليست أدبية!.
ـ الأدب عبر "تعطيل الشك" كشرط قرائي مُتحقق بالضرورة وللضرورة الفنيّة، يبدو مسالماً و قليل الأذى فيما لو قُورِن بتشككاتنا في الوقائع التاريخيّة، تلك التي أنتجت الطائفيّة و التطرف و أفسدت الأرض!.
ـ تعطيل الشك لا يعني أن القراءة ليست من المُقلِقات!، لكنها تعني أن "اللقلقات" لا يمكن لها أن تقيم حدّ الزِّنا على أنثى "اللقلق"، دون كذبة، دون كذبة فنيّة محبوكة عبر عمل أدبي و فنّي يسمح بالتواطؤ الأدبي و الفنّي أيضاً!، هنا تكمن طهارة الفن، لأنه يقول لك من الأساس أنه ليس الحقيقة لكنه الأبعد منها و الأعمق فيها!.
ـ مسكينة طيور اللقلق في الحكاية الساذجة التي قُدِّمت على أنها حقيقة واقعة و مُوَثَّقة، بل و تصلح لعِظة دينيّة!، و هنيئاً لبقيّة الطيور و الحيوانات في كتاب "كليلة و دمنة"، لا زلنا نُصدِّق حكاياتها و أنها تتكلم مثلنا و بلغتنا أيضاً، فقط لأنها دخلت من باب الفن و الأدب، لا من باب أنها حقيقة و تاريخ!.