|


فهد عافت
التّجريس!
2021-04-04
- لا يمكن قراءة الشعر الشعبي المصري، دون تشرّب “الجرس” وفهم “التّجريس”!. ثَبِّتْ على هذه الأخيرة:”التّجريس”!، موضوعنا اليوم!. لكن وبما أنّنا استفتحنا بالشعر الشعبي المصري، فلا بد من تحيّة لعمّنا بيرم!.
- بيرم التونسي، والذي له، عند المصريّين ومحبّي الشعر العامّي المصري، من القيمة والتقدير، ما لامرئ القيس في الشعر العربي، أستاذ و”مْعَلِّم” في الجرس و”التّجريس”:
“قاعد لي للبصبصه...
والرِّجْل فوق الرِّجْلْ!
كراسي مترصَّصَه...
والعِجلْ جنب العِجْلْ..
القعدة متشنخَصَه...
وامُّهْ بِتَاعِتْ فِجْلْ..
لكن سبب نفخِتُه:...
عَمُّهْ.. جُوز امُّه: غفير”!.
- ما هو “التّجريس”؟! وما حكايته وأصله؟!.
“التّجريس” كلمة عاميّة مصريّة، موغلة في شعبيّتها. تُقال في قلب الحواري العتيقة، للدّلالة على الفضيحة، أو للتهديد بها: “ح.. اجرّسك”!، أو: “الوِلِيّه دي ح تجرّسنا”!. صرنا نعرف “تجرّس” من سياق الجملة، لكن ما هو أصل الكلمة؟!.
- الحكاية طويلة. أتت، على ما أظنّ، مع الإنجليز، واستوطنت حارات مصريّة ياما، كأنّها وجدت في مصر أرضها الأمّ!. لا غرابة، مصر أمّ الدّنيا. علّمت الدّنيا “التشريح” وتعلّمت “الشرشحة”! تلك التي ياما وياما استخدمها المصريّون عقوبةً لكل من ظلمهم وضيّق عليهم سُبُل العيش!. وما “النُّكتة” السياسية في مصر إلا وجه من أوجه “التّجريس”!.
- في زمن قديم، كانت “عائلة تيودور” الحاكمة في إنجلترا، عائلة لها تشريعات عجيبة!. من ضمن هذه التشريعات، والتي فُرِضَت على الإنجليز، والمتضمنة لعقوبات طريفة: سجن ساعة لمن يشتم!، وأربع ساعات لمن يُضبَط وهو ثَمِل!. ثلاثة أيّام للتّشرّد!. و”التّجريس” لمن يعتدي على القِيَم!.
- كان “التّجريس” من عقوبات التشهير عند الإنجليز!. حيث يحمل القرويّون أبواقهم وطناجرهم وأجراسهم، ويقيمون حفلة نشاز موسيقي، مزعجة، عند أبواب وشبابيك المتّهمين، أو المحكوم عليهم، بالاعتداء على القِيَم الأخلاقيّة!. وكان من بين الخطايا المحسوبة في قائمة هذه القِيَم، والمُوجِبَة لعقوبة “التّجريس”: الزِّنا، وضرب الزّوجة، والأرملة أو الأرمل حين يتزّوجان مرّة أُخرى!.
- أغلب الظّنّ أنّ “التّجريس” انتقل لمصر من الإنجليز!. وأنّ أهلنا في مصر حين نجحوا في طرد الإنجليز من بلادهم، أبقوا “التّجريس” عندهم للذّكرى!. لا يُمكن لمُستعمِر أن يخرج كلّه!.
- الصّحافة المصريّة، وحتى الساحة الثقافية القديمة والمُقدّرة، حَمَلَتا، منذ البدء، شيئًا من روح “التّجريس”!. لكن هذه الرّوح ظلّت مُمتنعة عن التلفزيون سنين طويلة، إلى أنْ جاءت قفزة القنوات الفضائيّة الخاصّة، وتسيّدت برامج “التوك شو”، حيث المذيع لم يعد يقرأ نصًّا، ولا يستضيف أحدًا بالضرورة، وإنما يجلس وراء طاولة، أو يقف أمام الكاميرا، ويقوم بكل شيء: يقرأ، ويحلّل، ويعبّر عن رأيه، ويشرب شايه، ويطبخ وجبته ويأكلها!، ويُقاطع ضيوفه متى أراد وكيفما أراد!. و”يجرِّس”!.
- هذا لا يعني أنّ “التجريس” التلفزيوني بدأ من مصر!. الحقيقة أنّه بدأ من قناة الجزيرة، التي استخدمته بحرفية عالية “الوَطَيَان”!.
- ثم جاء طُوفان السوشال ميديا، ليتحوّل “التّجريس” إلى حالة سَرَطانيّة، جارفًا كل مفاهيم النقد الخيِّرَة، والمؤدّبة، وكلّ أخلاقيّات الحوار المفيد، تقريبًا. مهيّأً للغثّ والقبيح والسّوقي والمُبتذل، ما لم يكن يحلم به أكثر هواة التّجريس ومَوْهُوبِيه، تفاؤلًا!.
- ماذا عن “الجرس”؟! إكرام الميِّت دفنه!. وعلى طريقة “عادل إمام” في فيلم “عمارة يعقوبيان” أختم: “احنا في زمن التّجريس”!.