|


فهد عافت
البحث عن إشارة!
2021-12-04
- طردتُ من نفسي التشاؤم. حدث ذلك منذ زمن ليس بالقصير أبدًا، ولكنه حدث بصعوبة!. وقد احتاج الأمر إلى تدرّج وإلى تمرين ذهني وعاطفي وهو الأمر الذي احتجتُ معه إلى زمن ليس بالقصير أيضًا!. قناعتي اليوم راسخة: التّشاؤم خطيئة، ويكفيه من السّوء المُخجِل ما فيه من التّشكّك وانعدام الثّقة برحمة الله وبكرمه تعالى، وبقدرته على تدبير الأمر كما يشاء، وتغيير الحال من حزن إلى مسرّات وبهجة بأقل من غمضة عين. وجميعها: الرحمة والكرم والقدرة، أمور لا حدّ لها ولا نهاية عند ربّ العالمين.
- لا أشك في أنّ أمرّ التخلّص من هذه العادة البشعة، قد طال معي لقصور فيَّ وتقصير منّي، لكنّني أظنّ أنّ أمرًا آخر ساهم في تعقيد الموضوع وتصعيبه، إلى أنْ أنجاني الله منه بفضله ورحمته تعالى.
ما هو هذا الأمر؟! أظنّه الكتابة!. كتابة الشعر والمقالات!. ذلك أنني لاحظتُ أنّ كثيرًا ممّن يمتهنون الكتابة، وربما الفن عمومًا، لديهم مثل هذه الهواجس!. لديهم استعداد من نوع خاصّ للتّشاؤم والتّفاؤل!.
- ما لم يكن “ابن الرّومي” أشهر الشعراء العرب في هذا، فهو من أشهرهم!. وفي هذا المجال تُروى عنه حكايات وحكايات. مَرّةً، وقد كان من يطلبون مجيئه إليهم يعلمون بفرط تشاؤمه، تحايلوا، فأرسلوا جارية ذات اسم طيّب يدعم حس التفاؤل: “إقبال”!. طرقت الجارية الباب ففتح لها ابن الرّومي، لكنه سرعان ما أغلق الباب من جديد بعد أن سألها عن اسمها فقالت: “إقبال”!. سمعتهُ من وراء الباب يصرخ هلعًا: “لا بقاء.. لا بقاء”!. لقد قرأ حروف الاسم معكوسة!.
- تذكّرتُ “ابن الرّومي” وحكايته هذه، لأنني في يوم من الأيّام، وقعتُ في نفس العلبة ولا أقول اللعبة!. مرّةً؛ كنتُ مدعوًّا إلى مناسبة، وفي طريقي إليها رحتُ أقرأ الحروف في لوحات أرقام السيّارات في الشارع، أقرأ وأُقلِّب الحروف لأرى ماذا يُمكن لها أنْ تُشكِّل من كلمات. وكانت النتيجة بعد التقليب: لوحة سيارة “قيد”، سيّارة ثانية “حبس”، والثالثة “سجن”!. فما كان منّي إلّا أن “دِيوَرَتْ” ورجعت إلى البيت، ولا أظنني اتّصلت حتى للاعتذار!.
- أحيانًا؛ لا يتعلّق الأمر بالتّشاؤم، أو على الأقلّ فإنّ دلالاته تكون ألطف من أنْ تُلطّخ بدَرَن معاني كلمة “تشاؤم”!. لكنّي أعرف أكثر من شاعر وكاتب، لديهم شيء من هَوَس البحث عن إشارات حُسْن الطّالع!. منهم من لا يكتب بغير نوع معيّن من الأقلام!. ومنهم من قال لي مرّةً: “يأتيني بيت شعر، فإن لم أجد غير ورق مُسطّر، أعرف أنها لن تكون قصيدة جيدة!. وفي هذه الحالة أُفضّل حفظ ما يَرِدُ عليّ من أبيات في ذهني إلى أن أجد ورقة بيضاء من غير تسطير”!. في المُقابِل كان مؤلِّف المسلسلات العربيّة الأشهر “أسامة أنور عكاشة” لا يكتب إلا على ورق مُسطّر، وبنوع معيّن من الأقلام، وبما يمكن اعتباره استعادة لعب طفولي، كان يُزيّن كل صفحة بخطوط ورسوم ملوّنة ويزخرفها بإطار!. لم يكن “أسامة أنور عكاشة” يراجع ما كتبه خوفًا من تمزيقه!، لا مسودات لديه!، وكان بعد الانتهاء من كتابة كل عمل يدفن القلم مع الأوراق ولا يكتب بذلك القلم شيئًا آخر!.
- وخبرتُ بنفسي صديقًا، كان لا يكتب إلا في الظّلام، وربما لذلك كان من الصعب على غيره قراءة مسودات قصيدته الأولى!. أعرف قاصًّا لا يكتب إلا في زحام مقهى، يُشبه بذلك السيناريست المصري الشهير “وحيد حامد” رحمه الله، والذي اتّخذ من طاولة في بهو فندق شهير في مصر مكتبًا خاصًّا له تقريبًا!.
- شاعر، صديق، آخر تنبّه إلى أمر يحتاج بحثًا وتتبّعًا ودراسة: القصيدة التي تُكتُب من الليل إلى الصّباح تجيء أفضل وأطيب من تلك التي يُبدأُ بكتابتها صباحًا ويُنْتَهَى منها مساءً!.
- هذا وقد اقتصرت أمر ما أتذكّره من الطقوس فقط على ما لا شُبْهة فيه، وإلّا فإن الحكاية حكاية!.
- بطل رواية “عن الموسيقى” لبيتر هاندكه، يتوجّس مثل هذه التّوجّسات، ولا عجب، فهو كاتب!. تبدأ الرواية وتنتهي بِنيَّتِهِ الكتابة عن جهاز “مشغّل الأغاني”. وعلى الرغم من أنّه أقنع نفسه “أنّ فكرة الشروع في الكتابة عن مشغّل الأغاني هي أمر تافه وعابر، إلا أنه من ناحية أخرى كان يشعر بالتّوجّس”!. فكان “يهرب من ذلك الشعور بلجوئه اللا إرادي للبحث عن إشارات وعلامات على حُسْن الطّالِع”!. بالرغم من عدم قناعته بتلك العلامات، وبالرغم من أنه كان راح يردّد “من باب لَوْم الذّات ملحوظة عن الشخصية المؤمنة بالخرافات، وَرَدَت في كتاب ثاوفرسطس:.. إنّ الإيمان بالخرافات هو صورة من صور الجبن أمام ما هو إلهي”!. رغم ذلك نجده راح يراقب آثار خُطى الناس على بقعة الشّحم السوداء التي وجدها في طريقه ومرّ عليها بقدمه!. يراقب تداخل علامات الأسماء التجارية للأحذية، يبحث فيما صنعه هذا التداخل من كلمة جديدة، يستدل بها على إشارة ما!.