ـ لي قصيدة، أظنّها أشهر قصائدي: “فتنة الحفل”. سُئِلتُ أكثر من مرّة عن حكايتها، وأظنّني خذلتُ كثيرًا من محبّيها بقول الحقيقة: “بنت في شريط فيديو ترقص في حفلة عرس”!.
عدد ممّن أحبّوا القصيدة رفض التّصديق، كذّبني! وراح يقترح حكايات من عنده!. لم يزعجني ذلك. إنْ لم يكن معهم الحقّ، فمعهم العذر!. الحقيقة أقلّ تشويقًا وحرارةً!. كانت غلطتي، ما كان يتوجّب عليّ قول شيء بخصوص حقيقة ما حدث!. ويظلّ أجمل إطراء قرأته بهذا الخصوص، ما جاء في بريد قرّاء إحدى المجلّات. كتَبَتْ قارئة: “ليس هناك امرأة، إنّه يتحدّث عن قصيدته نفسها، “فتنة الحفل” هي “فتنة الحفل” نفسها”!. التّأويل أعطى القصيدة بُعدًا آخر، وطعمًا مختلفًا، حتّى بالنّسبة لي!.
ـ يخلط كثير من القُرَّاء بين العمل الفنّي وصاحبه. أو بين خيالات العمل الفنّي والحقيقة. أحيانًا، تختلط الأمور بشكل مؤسِف، وأحيانًا بشكل مُضحِك!. كان “فيكتور عمنويل الثالث” ملكًا لإيطاليا، وفي يوم، وبينما كان يتجوّل في معرض لوحات فنّيّة، وقف متأمِّلًا إحدى اللوحات، كانت اللّوحة تعرض بجمال لمنظر قرية ريفيّة صغيرة. بعد وقفة التّأمّل هذه، التَفَتَ إلى مدير المعرض قائلًا: “وكم عدد سكّان هذه القرية”؟!.
ـ وحين كتب “أمبرتو إيكو” روايته “بندول فوكو”، كان قد اهتمّ كثيرًا بتفاصيل المكان، وأوغل في الوصف بدقّة. بعد صدور الرّواية وصلته رسالة من قارئ، كان من الواضح أنّه راح يتتبّع المكان الحقيقي في المدينة، ويدقّق في الزمان الحقيقي للأحداث، باليوم والسّاعة. بل وراح يبحث في الصّحف الصّادرة حقيقةً في ذلك اليوم “24 يونيو 1984”. وجاءت الرّسالة تحمل هذه الملاحظة: في السّاعة التي كان فيها “كاسبون” يقطع الشّارع، شبّ حريق هائل في زنقة “ريمور” التي تتقاطع مع زنقة “سان ميري”، كان حريقًا هائلًا، وحدثًا مهمًّا تحدّثت عنه الصّحافة كلّها، كيف لم يرَ “كاسبون” الحريق؟!. هكذا خلط القارئ بين الحقيقة وشخصيّة “كاسبون” المتخيّلة روائيًّا!. وما كان من “أمبرتو إيكو” إلّا أن ردّ عليه بلطف وفكاهة: “قد يكون كاسبون رأى الحريق، ولكنه لم يرَ داعيًا لإخباري بذلك، ربما لأسباب غامضة، وهو أمر عادي في رواية مليئة بالأسرار الصّحيحة والمزيّفة”!.
ـ حكاية أُخرى جرت للرّوائي “جريجوار دولاكور”. بعد صدور روايته “كاتب العائلة”، تلقّى بريدًا إلكترونيًّا موقّعًا باسم امرأة تُدعى “ب”. عرف “دولاكور” من الرّسالة من هي السّيّدة “ب”. لقد كانت حبّه الأوّل. حبّ طفولي سريع، وهو الآن قديم جدًّا. وها هي الآن وبعد سبعة وثلاثين عامًا من الغياب والصّمت تظهر من جديد. لقد قرأت الرّواية، وتتبّعت الأمكنة الموصوفة، ومنها تعرّفت على أنه هو ذلك الصّغير الذي جمعت بينهما حكاية حب قصيرة لكنها أُولى!. وفي الرسالة راحت تخبره عن وفاة والدها، متأثرةً من نهاية الأب في الرّواية، مفترضةً بتوهّم أنّه كان يتحدّث عن نهاية حقيقيّة لوالده الحقيقيّ!.
ـ نعود إلى “أمبرتو إيكو”، وإلى ما أظنّه أجمل وصف فاصل، بين الحقيقة والخيال، عبّر عنه في كتابه “تأمّلات في السّرد الرّوائي”، حيث أشار إلى ضرورة الفصل بين الحقيقة حيث الشّخصيّة “العَلَم” وبين الخيال حيث الشّخصيّة “القَلَم”!.
ـ وبالمناسبة، فإنني أظنّ أنّه وبسبب غياب هذا التّمييز بين الاسم “العَلَم” والاسم “القَلَم” فإنّنا كثير ما نُصدَمُ حين نلتقي حقيقةً بنجوم الكوميديا المحبوبين لدينا، فنجدهم ثقلاء في الواقع، وأكثر رزانةً ممّا في خيالنا!. ورأيي: لا يُمكن لهم إلّا أن يكونوا في واقعهم وحقيقتهم إلّا في مُنتهى خفّة الظِّل، لكنهم، أو معظمهم على الأقلّ، يتصنّع الثُّقل في إشارة ضمنيّة، تطلب منّا، وتدفعنا، للتّعامل معهم كأُناس طبيعيين بعيدًا عن الأدوار التي قاموا، ويقومون، بتجسيدها فنّيًّا!. هم ليسوا ثُقلاء دم أبدًا، لكنهم مساكين، مجبرين على تصنّع شيء من الغِلْظَة لحماية حقيقتهم من خيالاتنا!. هذه الحركة تحدث كثيرًا، وأسمّيها “القَنْفَذَة”!، نسبةً إلى القُنْفذ، الكائن الصغير الضّعيف اللطيف الذي لا يُريد أذيّة أحد. هو مُحاط بالأشواك فقط لحماية نفسه!.
عدد ممّن أحبّوا القصيدة رفض التّصديق، كذّبني! وراح يقترح حكايات من عنده!. لم يزعجني ذلك. إنْ لم يكن معهم الحقّ، فمعهم العذر!. الحقيقة أقلّ تشويقًا وحرارةً!. كانت غلطتي، ما كان يتوجّب عليّ قول شيء بخصوص حقيقة ما حدث!. ويظلّ أجمل إطراء قرأته بهذا الخصوص، ما جاء في بريد قرّاء إحدى المجلّات. كتَبَتْ قارئة: “ليس هناك امرأة، إنّه يتحدّث عن قصيدته نفسها، “فتنة الحفل” هي “فتنة الحفل” نفسها”!. التّأويل أعطى القصيدة بُعدًا آخر، وطعمًا مختلفًا، حتّى بالنّسبة لي!.
ـ يخلط كثير من القُرَّاء بين العمل الفنّي وصاحبه. أو بين خيالات العمل الفنّي والحقيقة. أحيانًا، تختلط الأمور بشكل مؤسِف، وأحيانًا بشكل مُضحِك!. كان “فيكتور عمنويل الثالث” ملكًا لإيطاليا، وفي يوم، وبينما كان يتجوّل في معرض لوحات فنّيّة، وقف متأمِّلًا إحدى اللوحات، كانت اللّوحة تعرض بجمال لمنظر قرية ريفيّة صغيرة. بعد وقفة التّأمّل هذه، التَفَتَ إلى مدير المعرض قائلًا: “وكم عدد سكّان هذه القرية”؟!.
ـ وحين كتب “أمبرتو إيكو” روايته “بندول فوكو”، كان قد اهتمّ كثيرًا بتفاصيل المكان، وأوغل في الوصف بدقّة. بعد صدور الرّواية وصلته رسالة من قارئ، كان من الواضح أنّه راح يتتبّع المكان الحقيقي في المدينة، ويدقّق في الزمان الحقيقي للأحداث، باليوم والسّاعة. بل وراح يبحث في الصّحف الصّادرة حقيقةً في ذلك اليوم “24 يونيو 1984”. وجاءت الرّسالة تحمل هذه الملاحظة: في السّاعة التي كان فيها “كاسبون” يقطع الشّارع، شبّ حريق هائل في زنقة “ريمور” التي تتقاطع مع زنقة “سان ميري”، كان حريقًا هائلًا، وحدثًا مهمًّا تحدّثت عنه الصّحافة كلّها، كيف لم يرَ “كاسبون” الحريق؟!. هكذا خلط القارئ بين الحقيقة وشخصيّة “كاسبون” المتخيّلة روائيًّا!. وما كان من “أمبرتو إيكو” إلّا أن ردّ عليه بلطف وفكاهة: “قد يكون كاسبون رأى الحريق، ولكنه لم يرَ داعيًا لإخباري بذلك، ربما لأسباب غامضة، وهو أمر عادي في رواية مليئة بالأسرار الصّحيحة والمزيّفة”!.
ـ حكاية أُخرى جرت للرّوائي “جريجوار دولاكور”. بعد صدور روايته “كاتب العائلة”، تلقّى بريدًا إلكترونيًّا موقّعًا باسم امرأة تُدعى “ب”. عرف “دولاكور” من الرّسالة من هي السّيّدة “ب”. لقد كانت حبّه الأوّل. حبّ طفولي سريع، وهو الآن قديم جدًّا. وها هي الآن وبعد سبعة وثلاثين عامًا من الغياب والصّمت تظهر من جديد. لقد قرأت الرّواية، وتتبّعت الأمكنة الموصوفة، ومنها تعرّفت على أنه هو ذلك الصّغير الذي جمعت بينهما حكاية حب قصيرة لكنها أُولى!. وفي الرسالة راحت تخبره عن وفاة والدها، متأثرةً من نهاية الأب في الرّواية، مفترضةً بتوهّم أنّه كان يتحدّث عن نهاية حقيقيّة لوالده الحقيقيّ!.
ـ نعود إلى “أمبرتو إيكو”، وإلى ما أظنّه أجمل وصف فاصل، بين الحقيقة والخيال، عبّر عنه في كتابه “تأمّلات في السّرد الرّوائي”، حيث أشار إلى ضرورة الفصل بين الحقيقة حيث الشّخصيّة “العَلَم” وبين الخيال حيث الشّخصيّة “القَلَم”!.
ـ وبالمناسبة، فإنني أظنّ أنّه وبسبب غياب هذا التّمييز بين الاسم “العَلَم” والاسم “القَلَم” فإنّنا كثير ما نُصدَمُ حين نلتقي حقيقةً بنجوم الكوميديا المحبوبين لدينا، فنجدهم ثقلاء في الواقع، وأكثر رزانةً ممّا في خيالنا!. ورأيي: لا يُمكن لهم إلّا أن يكونوا في واقعهم وحقيقتهم إلّا في مُنتهى خفّة الظِّل، لكنهم، أو معظمهم على الأقلّ، يتصنّع الثُّقل في إشارة ضمنيّة، تطلب منّا، وتدفعنا، للتّعامل معهم كأُناس طبيعيين بعيدًا عن الأدوار التي قاموا، ويقومون، بتجسيدها فنّيًّا!. هم ليسوا ثُقلاء دم أبدًا، لكنهم مساكين، مجبرين على تصنّع شيء من الغِلْظَة لحماية حقيقتهم من خيالاتنا!. هذه الحركة تحدث كثيرًا، وأسمّيها “القَنْفَذَة”!، نسبةً إلى القُنْفذ، الكائن الصغير الضّعيف اللطيف الذي لا يُريد أذيّة أحد. هو مُحاط بالأشواك فقط لحماية نفسه!.