|


فهد عافت
الشِّعْر في خطر!
2022-03-08
ـ الفنون كلّها: إطار وانزياح، يثبت الشكل في الإطار، وفي الانزياح يتحرّك المعنى!. وكلاهما: الشّكل والمعنى، يُقدّمان المضمون، ويمنحانه في عمليّة مزج سحريّة، بحيث نجد أنفسنا أمام أي عمل فنّي حقيقيّ غير قادرين على التّفريق بين الشّكل والمعنى!.
ـ في أي عمل جدير بكلمة “فنّي” حقًّا، لا يكون الشكل حاجزًا، ولا يكون المعنى عاجزًا. رغم أنّ الشكل حاجز فعلًا، وأنّ هذه هي مهمّته: حجز كل ما هو خارج الإطار عمّا هو داخله!. والسّحريّة فيه أنّه يفعل ذلك لينفتح على كل ما هو خارج الإطار!. يفعل ذلك عبر المعنى والذي بدوره قائم أبدًا على الانزياح!.
ـ حتى الآن، فيما يبدو، لا مشكلة مع الشّكل، المشكلة في الانزياح ومعه!. وهي مشكلة عويصة، لأنّه لا مفرّ من الانزياح مطلقًا، وإلّا تيبّست الفنون وقَضَتْ نَحْبَها!.
ـ وإنْ كانت تُوجَد مشاكل مع الشّكل فهي صغيرة وعابرة، فانتقال القصيدة مثلًا من الشكل العمودي إلى الحرّ، ومن الحرّ إلى النّثر، لا يقيم ورطة دائمة. ربّما يقيم ورطة كبيرة، لكنها ورطة نقد سيغيّر رأيه فيما بعد!، أو ورطة هذر صحفي ستنتهي أو تصغر وتتضاءل مع أوّل نجاح حقيقي لأصحاب الشّكل الجديد!.
ـ المشكلة كلّ المشكلة، والورطة العويصة التي لا مفرّ منها إلّا لها، تكمن في الانزياح!. وأغلب الظّنّ أنّ أوّل من سيواجه هذه العاصفة هو فنّ الشِّعْر!. فهل سيكون الشِّعْر أكثر الفنون عُرْضَة للموت وللاندثار؟! ظنّي: نعم!.
ـ الشِّعْر رسمٌ بالكلمات. والرّسم بالكلمات انزياح أبديّ: “حبيبتي مثل القمر” هذا انزياح، وأوّل ما قيلت هذه الجملة، وقبل أن يتم التّعوّد عليها فتصير قولًا عاديًّا، كانت شعرًا دون شكّ!. الانتشار يقود إلى التّعوّد، والعادي حبل مشنقة الشِّعر وكل فنّ!. لذلك تُجبر الجملة السابقة على الانزياح فتُحذف أداة التّشبيه، تصير: “حبيبتي قمر”، وليس “مثله”!. ويستمر الانزياح، فيُحذف القمر، ويُكتفى بصفته: “حبيبتي مضيئة عالية بعيدة”!. ثم تُحذف الحبيبة، ويُكتفى بـ”مضيئةٌ عاليةٌ بعيدة”، بهذا يكون مكان الكلمة المحذوفة “حبيبتي” خاليًا، لتجلس عليه من تجلس: حبيبة أو قصيدة أو بلاد!. هنا يقع الشّعر في ورطة، فلا بد من انزياحات أُخرى وإلّا فإنّه سيتوقّف عن كونه فنًّا!.
ـ الشِّعر يتحايل، هو حتّى الآن لديه الكثير من الحِيَل، والتي من ضمنها إغلاق الموضوع والبحث عن موضوع آخر في نفس الحالة، والتي هي هنا حالة حب وغزل. أو يتم الدّخول في تفاصيل أدق. يتم التّوقف ولو لفترة عن وصف المحبوب بشكل شمولي، ويُكتفى بالعينين أو الشَّعْر أو المعصم!. لكن الأجزاء ستنتهي والانزياح يبقى وإلا فلا شِعْر!. يتم، وهذا لحسن الحظّ، تحايل آخر: يتغيّر الموضوع من وصف المحبوب مثلًا إلى وصف الحب، وهكذا تستمر الحِيَل والألاعيب!.
ـ لكن، وباستمراريّة الانزياح، الكلمات تختلط وتتضارب، ويغمض المعنى، ثم يتطلسم، ثم لا يعود سوى إيقاع، وربما لذلك يتمسّك الشِّعر بالموسيقى الصّريحة، بالرّتم والإيقاع، لأنّه يعرف مآله الأخير!. لكن هل يكفي هذا؟! وإلى متى؟!.
ـ من مشاكل الشِّعر أيضًا، أنّه قائم على أمرين، يصعب الاستغناء عنهما: الصّورة، وجمع المتناقضات!. الصّورة تم الاستيلاء عليها من قِبَل الشاشات والكاميرات إلى حدّ بعيد، وتحديدًا في مواضيع مثل الحروب والدّمار!. ومن ناحية أُخرى صارت الشجاعة إلكترونيّة، بضغطة زِرّ ينتصر المحارِب أو يُهزَم!. وفيما يخصّ جمع المتناقضات، وهو جمع تعشقه كل الفنون لكن الشّعر قائم على دَوِيِّه، أي على قلب النار إلى ماء، والظّلم إلى عدل، والليل إلى صبح، وهو بعكس الرواية يفعل ذلك خبط لصق! وهذه بصراحة لعبة لم تعد مجدية كثيرًا، صناعتها صارت معروفة، وحلواها مكشوفة!.
ـ الأكيد أنْ من حِيَل الشِّعر المتبقيّة، وإنْ كانت غير مضمونة: العودة إلى نقطة الصِّفر، متى ما تم نسيان كلّ شيء!. فالفنون لا تموت موتًا نهائيًّا، أو هذا ما أظنّه!.