دعونا نتفق أولًا على أن الكتابة بعد رحيل عزيز بأيام كتابة قاصرة، وتصعب أكثر إذا كان عزيزك هو أستاذك، وتصعب أكثر وأكثر إذا كان عزيزك وأستاذك هو صديقك.
فجأة وبعد أن سددت النوافذ لكي لا يتسرب برد لندن، تفتح تغريدة الأستاذ تركي الدخيل نوافذ وأبواب المشاعر والآلام والذكريات، كان عليّ أن أقرص يدي لأشعر بالألم، لأتأكد أنني في الواقع ولست في عالم آخر، لست في عالم الأحلام والكوابيس المخيفة. كان الأستاذ تركي يترحم على أحمد حسني ويكتب عن سيرته الإذاعية، وعن أستاذيته وشهامته، كان يكتب عن صديقه الحبيب أكثر من زميله العزيز، وكان عليّ أن أصدقَّ الحقيقة، أن أتجرّع مُرها، كان لساني ثقيلًا لأن يتلفظ كي أصدِّق.. أحمد حسني مات!.
علاقتي بأحمد بدأت في منتصف العام 1994 عندما انطلقت إذاعة mbc fm، بدأت عندما اكتشفنا أن جيناتنا واحدة، وسهّل تشابه الجينات لغات الكلام بيننا، لذا كنا نتحدث عبر اللسان والنظر والصمت، حتى سلامنا على بعضنا اخترعناه دون تخطيط، ما إن يرى أحدنا الآخر حتى يتجه نحوه لنقف متقابلين مرددين نشيد صداقتنا، كان عبارة عن أغنية «بندهلك» للفنان اللبناني مايز البياع، التقطها سمعُ أحمد من سماعات أستديو الإذاعة فعلقت بلسانه، ثم غناها لي أول مرة ورددتها معه، ثم صارت نشيدنا الخاص الذي نردده سويًا في صالة تحرير الإذاعة كلما التقينا: بندهلك أيوا أنا بندهلك .. وبقولك يا جميل محتاجلك.. تيررررم، وتيرم كانت نغمة ابتكرها أحمد لقفل الجملة الموسيقية لتُنهي النشيد. كان ترديدنا للنشيد يعني اجتماعنا، هكذا يعلم الزملاء بلقائنا في مبنى الإذاعة. ويحدث أحيانًا أن يكون أحدنا مشغولًا عند وصول الآخر فنردد نشيدنا برتم أسرع، وكان لابد من التيرررم التي أصبحت تضحك الزملاء، وصاروا يشاركوننا ترديدها من بعيد عند نهاية النشيد.
بعد عام علقت في ذهن أحمد أغنية جديدة كان مصدرها أيضًا من سماعات الأستديو التي يصل صوتها صالة التحرير، كان قد أصابنا بعض الملل من النشيد الأول، وكان لابد من اختيار نشيد جديد ينشط أجواء لقائنا اليومي، قال: إيه رأيك بدي: عوالي يا.. عوالي يا.. عوالي يانجوم بالليل.. عوالي يا. كانت أغنية من التراث الليبي، ولم أنتظر حتى رددت معه على الفور نشيدنا الجديد الذي أعاد الحماس، وحفظ الزملاء بعد أيام نشيدنا الجديد لشدة ما كنا نردده أنا وأحمد بحماسة تشبه حماسة الأطفال وهم يرددون نشيد وطنهم في طابور الصباح.
في إحدى المرات زارنا ضيف مهم، رافقت مع المسؤولين الضيف من ردهة الاستقبال إلى قسم الإذاعة، في ذلك اليوم لم أكن قد رأيت أحمد، وقف الزملاء ومن ضمنهم أحمد لاستقبال الضيف الذي اتجه مع المسؤولين إلى الأستديو، اتجهت وأحمد إلى زاوية بعيدة عن الضيف والزملاء ورددنا بصوت منخفض جدًا: عوالي يا.. عوالي يا.. عوالي يا نجوم في الليل. ثم ذهب كل منا إلى شأنه.
بعد أن انتقلت إلى محطة أخرى صارت لقاءاتنا قليلة بحكم البُعد، لكننا كلما التقينا رددنا نشيدنا الأول: بندهلك أيوا أنا بندهلك.. وبقولك يا جميل محتاجلك. لا أعرف لماذا عدنا للنشيد الأول بعد أن افترقنا، ربما لأنه يمثل الأصل الذي يعود له الإنسان مهما ابتعد وتشتت في الأرض. لا أظن أنني الآن قادر على الاستماع لبندهلك أو عواليا، لكن أمر عدم الاستماع لهما هيّن، ولا أظن يومًا أنني سأستمع لهما صدفة في شارع أو إذاعة، فالاغنيتان قديمتان، لكن الذي لا أعرفه هو كيفية التعايش مع حقيقة رحيل أحمد، وأن مسألة إرسال رسالة أو الاتصال به للاطمئنان عليه أو لتحديد موعد أصبحت مستحيلة.
لست هنا لأقول إن أحمد حسني كان أخي في الإذاعة وخارج الإذاعة، وأنه كان «جدع» وأصيل وكريم وابن ناس وصاحب صحبه، هذه الأمور يعرفها الجميع عنه، ولست هنا للحديث عن مهنيته فهو أستاذنا الكبير، وعبقري إذاعة لا مثيل له، وأنني تعلمت منه، ولست هنا لأكتب عن دوره التأسيسي الكبير في إذاعة mbc fm والبانوراما والعربية fm وقناة العربية، وأن له يد فاضلة على أجيال مروا أو مازالوا في هذه القنوات، لست هنا للحديث عن إعلامي عربي كبير، ولا عن ذكرياتي وعلاقتي الإنسانية به، ولا عن تلك الأمسيات والأوقات التي كنا نستريح فيها من تحفظ الكلام.
لأحمد محبون وأصدقاء كثر ومنتشرون في دول العالم، جميعهم لهم معه مواقف وحكايات تُظهر نبله وشهامته وأستاذيته، وأنا مجرد واحد منهم، واحد يشعر بألم الفراق المر، لأن جزءًا جميلًا منه رحل ولن يعود، جزءًا مهما غنيت له أنا بندهلك لن يجيب!.
فجأة وبعد أن سددت النوافذ لكي لا يتسرب برد لندن، تفتح تغريدة الأستاذ تركي الدخيل نوافذ وأبواب المشاعر والآلام والذكريات، كان عليّ أن أقرص يدي لأشعر بالألم، لأتأكد أنني في الواقع ولست في عالم آخر، لست في عالم الأحلام والكوابيس المخيفة. كان الأستاذ تركي يترحم على أحمد حسني ويكتب عن سيرته الإذاعية، وعن أستاذيته وشهامته، كان يكتب عن صديقه الحبيب أكثر من زميله العزيز، وكان عليّ أن أصدقَّ الحقيقة، أن أتجرّع مُرها، كان لساني ثقيلًا لأن يتلفظ كي أصدِّق.. أحمد حسني مات!.
علاقتي بأحمد بدأت في منتصف العام 1994 عندما انطلقت إذاعة mbc fm، بدأت عندما اكتشفنا أن جيناتنا واحدة، وسهّل تشابه الجينات لغات الكلام بيننا، لذا كنا نتحدث عبر اللسان والنظر والصمت، حتى سلامنا على بعضنا اخترعناه دون تخطيط، ما إن يرى أحدنا الآخر حتى يتجه نحوه لنقف متقابلين مرددين نشيد صداقتنا، كان عبارة عن أغنية «بندهلك» للفنان اللبناني مايز البياع، التقطها سمعُ أحمد من سماعات أستديو الإذاعة فعلقت بلسانه، ثم غناها لي أول مرة ورددتها معه، ثم صارت نشيدنا الخاص الذي نردده سويًا في صالة تحرير الإذاعة كلما التقينا: بندهلك أيوا أنا بندهلك .. وبقولك يا جميل محتاجلك.. تيررررم، وتيرم كانت نغمة ابتكرها أحمد لقفل الجملة الموسيقية لتُنهي النشيد. كان ترديدنا للنشيد يعني اجتماعنا، هكذا يعلم الزملاء بلقائنا في مبنى الإذاعة. ويحدث أحيانًا أن يكون أحدنا مشغولًا عند وصول الآخر فنردد نشيدنا برتم أسرع، وكان لابد من التيرررم التي أصبحت تضحك الزملاء، وصاروا يشاركوننا ترديدها من بعيد عند نهاية النشيد.
بعد عام علقت في ذهن أحمد أغنية جديدة كان مصدرها أيضًا من سماعات الأستديو التي يصل صوتها صالة التحرير، كان قد أصابنا بعض الملل من النشيد الأول، وكان لابد من اختيار نشيد جديد ينشط أجواء لقائنا اليومي، قال: إيه رأيك بدي: عوالي يا.. عوالي يا.. عوالي يانجوم بالليل.. عوالي يا. كانت أغنية من التراث الليبي، ولم أنتظر حتى رددت معه على الفور نشيدنا الجديد الذي أعاد الحماس، وحفظ الزملاء بعد أيام نشيدنا الجديد لشدة ما كنا نردده أنا وأحمد بحماسة تشبه حماسة الأطفال وهم يرددون نشيد وطنهم في طابور الصباح.
في إحدى المرات زارنا ضيف مهم، رافقت مع المسؤولين الضيف من ردهة الاستقبال إلى قسم الإذاعة، في ذلك اليوم لم أكن قد رأيت أحمد، وقف الزملاء ومن ضمنهم أحمد لاستقبال الضيف الذي اتجه مع المسؤولين إلى الأستديو، اتجهت وأحمد إلى زاوية بعيدة عن الضيف والزملاء ورددنا بصوت منخفض جدًا: عوالي يا.. عوالي يا.. عوالي يا نجوم في الليل. ثم ذهب كل منا إلى شأنه.
بعد أن انتقلت إلى محطة أخرى صارت لقاءاتنا قليلة بحكم البُعد، لكننا كلما التقينا رددنا نشيدنا الأول: بندهلك أيوا أنا بندهلك.. وبقولك يا جميل محتاجلك. لا أعرف لماذا عدنا للنشيد الأول بعد أن افترقنا، ربما لأنه يمثل الأصل الذي يعود له الإنسان مهما ابتعد وتشتت في الأرض. لا أظن أنني الآن قادر على الاستماع لبندهلك أو عواليا، لكن أمر عدم الاستماع لهما هيّن، ولا أظن يومًا أنني سأستمع لهما صدفة في شارع أو إذاعة، فالاغنيتان قديمتان، لكن الذي لا أعرفه هو كيفية التعايش مع حقيقة رحيل أحمد، وأن مسألة إرسال رسالة أو الاتصال به للاطمئنان عليه أو لتحديد موعد أصبحت مستحيلة.
لست هنا لأقول إن أحمد حسني كان أخي في الإذاعة وخارج الإذاعة، وأنه كان «جدع» وأصيل وكريم وابن ناس وصاحب صحبه، هذه الأمور يعرفها الجميع عنه، ولست هنا للحديث عن مهنيته فهو أستاذنا الكبير، وعبقري إذاعة لا مثيل له، وأنني تعلمت منه، ولست هنا لأكتب عن دوره التأسيسي الكبير في إذاعة mbc fm والبانوراما والعربية fm وقناة العربية، وأن له يد فاضلة على أجيال مروا أو مازالوا في هذه القنوات، لست هنا للحديث عن إعلامي عربي كبير، ولا عن ذكرياتي وعلاقتي الإنسانية به، ولا عن تلك الأمسيات والأوقات التي كنا نستريح فيها من تحفظ الكلام.
لأحمد محبون وأصدقاء كثر ومنتشرون في دول العالم، جميعهم لهم معه مواقف وحكايات تُظهر نبله وشهامته وأستاذيته، وأنا مجرد واحد منهم، واحد يشعر بألم الفراق المر، لأن جزءًا جميلًا منه رحل ولن يعود، جزءًا مهما غنيت له أنا بندهلك لن يجيب!.