الأهلي.. من سرير الألم إلى قمة آسيا

في جدة، حيث تختلط رائحة البحر بصوت المآذن، وعبق الحارات القديمة بقصص لا تموت، وُلد الأهلي. لم يكن ناديًا عاديًا، بل حالة شعورية، منذ تأسيسه عام 1937، لم يكن مجرد فريق كرة قدم، بل مشروع للهوية، للذوق، وللأناقة الكروية. أراده مؤسسوه ناديًا يمثل السعودية، فصار في وجدان جماهيرها عنوانًا للفن والنقاء.
لقّب بالراقي، وأحبته القلوب باسم الملكي. ليس لأن ملوك المملكة قلدوه أوسمة الذهب فقط، بل لأن في روحه نُبلًا يليق بالتيجان. وعلى مدى عقود، غزل الأهلي قصته بذهب البطولات، بفن الأداء، وبجمهور لا يشبه أحدًا. جمع المجد من أطرافه، حتى قيل إن الأهلي لا يلعب.. بل يعزف.
في أرفف القلعة الخضراء أكثر من 52 بطولة محلية وخارجية، وكان أول نادٍ سعودي من بين الأربعة الكبار يحقق بطولة خارجية، وفي 2016، كتب سطرًا ذهبيًا في كتاب البطولات، حين ظفر بالثلاثية التاريخية: الدوري، كأس الملك، وكأس السوبر، في موسم لا يُنسى.
لكن آسيا، القارة التي لا تعترف إلا بالأبطال الصبورين، بقيت تراوغ الأهلي. اقترب منها في 1986، ثم في 2012 حين اصطدم بأقدار مؤلمة أمام أولسان الكوري. كانت القارة تراقب، كأنها تنتظر لحظة الانفجار الحقيقي… وقد كانت تعرف أنها قادمة.
ثم جاء 2022، العام الذي لن تنساه الجماهير. في مشهد صادم، سقط الأهلي إلى دوري «يلو». نادٍ بهذا التاريخ، بهذه الجماهير، بهذه الهيبة، يهبط؟ كانت خسارة تتجاوز النقاط والترتيب؛ كانت ضربة للهوية. جلس اللاعبون على العشب، اختنقت الأصوات في الحناجر، وبكت الملاعب على غياب أحد كبارها.
لكن الأهلي لا يموت. لأنه ليس شعارًا على قميص، بل روح تسكن الملايين. وفي موسم واحد فقط، عاد. في 2022ـ 2023، تصدر دوري الدرجة الأولى وصعد. صعد برجاله، بجمهوره، وبكرامته. وفي المدرجات، لم يتوقف الموج الأخضر. جمهور الأهلي لم يغادر، بل زاد عددًا وصوتًا ووفاءً.
وفي صيف 2023، دخل النادي منعطفًا جديدًا، استراتيجيًا وتاريخيًا. استحوذ عليه صندوق الاستثمارات العامة، ليصبح ضمن المشروع الوطني الرياضي، ويبدأ فصلٌ جديد. دخل الأهلي السوق بثقل غير مسبوق، وتعاقد مع نجوم عالميين: رياض محرز، كيسيه، ميندي، وفيرمينو. واستعان بمدرب ألماني شاب طموح، ماتياس يايسله، ليقود هذا الحلم الجديد.
لكن البداية في موسم 2023ـ 2024 لم تكن مثالية. الفريق تذبذب، والنتائج لم تُرضِ الطموح. في الدوري، أنهى موسمه ثالثًا خلف الهلال والنصر، الضغط تزايد، وحديث إقالة يايسله بدأ يطفو على السطح. في الموسم التالي خسارته أمام الخلود في يناير 2025 كانت القشة، وتناقلت وسائل الإعلام أن الأهلي حسم أمره، واستدعى مدربين إيطاليين، أليجري وسيوفي.
وفي ذروة الترقب، وقفت الإدارة وقالت: «يايسله باقٍ». صدر البيان، وتغير كل شيء. بعد أن خاض الفريق 23 مباراة خسر فيها 7، فاز بعدها في 17 من أصل 21، وخسر مرتين فقط. تحوّل الأداء، وتحوّلت الروح، وبدأ الأهلي يعود فعلًا.. لا وهمًا.
في الشتاء، أتم النادي صفقات نوعية ساهمت في صناعة الإنجاز. جلب الجناح البرازيلي ويندرسون جالينو، والظهير البلجيكي ماثيو دامس، وأعاد الظهير المقدوني أليوسكي للحسابات. أما فيرمينو، فتم استبعاده من القائمة المحلية، لكن الإبقاء عليه في القارية كان ضربة معلم. سجّل، صنع، وقاد، وتُوّج بجائزة أفضل لاعب في البطولة.
في دوري أبطال آسيا للنخبة، كانت الرحلة مثالية. شارك الأهلي نظيره الهلال صدارة المجموعة، واجتاز بوريرام التايلاندي بثلاثية، ثم تجاوز الهلال في نصف نهائي سعودي خالص، بعد أداء تكتيكي صارم أنهى به حقبة الهيمنة الزرقاء آسيويًا. وفي النهائي، أمام كاواساكي الياباني، لم يكن هناك مجال للخطأ. الأهلي سيطر، وسجّل، وأبهر، ورفع الكأس للمرة الأولى في تاريخه دون خسارة.
في ملعب «الإنماء» بجدة، وقف يايسله، ورفع الكأس. لم تكن مجرد بطولة. كانت رحلة، وصراعًا، وقرارًا. كانت 105 أيام فصلت بين لحظة بقائه المهددة، ولحظة اعتلائه القمة. كان درسًا عن الثقة، وعن أن الكبار لا تهزمهم العثرات، بل تصقلهم.
أما الجمهور، فكان كما هو دائمًا: القلب الذي لا يتوقف عن النبض. في الهبوط، في «يلو»، في الخسائر، ظلوا هناك. صنعوا «التيفو»، رفعوا الأعلام، غنّوا من القلب، وحين جاء المجد، كانوا أول من احتضنه.
الأهلي ليس مجرد نادٍ يتوّج بلقب. الأهلي قصة أمة كروية. من مارادونا الذي زار أسواره، إلى البرازيل التي واجهته، إلى أجيال تنقلت بين عبدالجواد ومالك وتيسير ومحرز. هو نادٍ لا تنتهي حكاياته. سقط وقام. غاب وعاد. وها هو اليوم، بعدما مرّ من دهاليز الألم، ووقف في وجه العاصفة، يعود ليرتقي عرش آسيا. لم يكن تتويجه مجرد انتصار، بل شهادة ميلاد جديدة لنادٍ لا يعرف الانكسار.. الأخضر الكبير إذا ترنّح، عاد شامخًا، وإذا سقط، نهض عظيمًا.