«هفهفات عْصِيرْ»!
ـ في المساء، وأثناء تقليبي للقنوات، توقفت عند مشهد من مسلسل عربي، المشهد تقريبًا: رجل وامرأة يجلسان على طاولة، الشّيب والتجاعيد غزتهما في معركة لم تنتهِ بعد باستسلامهما، يبتسمان. تعرف من الحديث أنّ علاقة حب قديمة انقطعت وها هي تبدأ من جديد بعد فراق طويل. يبتسمان بحزن. النيل يجري معمِّقًا. كان اللقاء صباحًا، ينتبه الرجل لذلك، يتنهّد قائلًا: لكن العمر لم يعد صباحًا، نحن فيما بعد العصر بقليل!.
ـ لم أتمكّن من المتابعة. شيء ما هزّني، مثل طرق بابٍ يجب أن يُفتح. فتحت باب القلب، لم يخرج أحد، أنا الذي دخلت، وكان مساعد الرشيدي يدوزن بيتًا:
"دخيل الغصن والظّل الهزيل وهفهفات عصير..
دخيلك لا تشحّ بنجمتي والليل ممسيني"!.
ـ وكأنني أقرأ البيت للمرّة الأولى!. يموج المعنى ويُغرِق!. كيف لم أنتبه لتلويحة الوداع العجائبيّة هذه؟!. من أين للشاعر أن يكسب كل هذا القدر من رهافة التّنبّؤ بقُرب الرحيل؟!. يوم كتب مساعد القصيدة، كنّا نظن جميعًا أن العمر في أوله، وأظن أن "جميعًا" هذه تشمل مساعد أيضًا!، لكن البيت يقول شيئًا آخر، ومن زاوية "هفهفات عصير" أرى كل شيء من جديد!. القصيدة تُولد من جديد!.
ـ منذ البدء، وقد قلت ذلك سابقًا، وأظنني كتبته، كنت أعتبر هذه القصيدة هي الأكثر شفافية ورِقّة لمساعد الرشيدي، لكنني وفي كلّ مرّة أكتشف أنها أشفّ وأرقّ ممّا ظننت!. كنتُ وكلّما جاء الحديث عن أدوات الشاعر أقول: جرح وسكّين!،.."ترا كل الزهاب اللي معي: جرحي وسكّيني"!.
ـ وكنت أتخيّل "الطير" في القصيدة، صورة شخصيّة للشاعر نفسه، صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود لمساعد في طفولته أو صِباه، وَقَعَتْ بين يديه صدفة، في لحظة شعر، فخاطبها!. هذه قصيدة لا يمكن كتابتها دون أن ينظر شاعرها بعينيه حالة الكتابة إلى عينيه في وقت سابق!. اليوم أُضيف: أو في وقت لاحق!.
ـ مساعد الرشيدي تحديدًا، لا يمكن فصل فكره عن جسده!. حضور أحدهما يستدعي حضور الآخر تلقائيًّا!. بهذه الحيلة الإبداعية تمكّن من اختراق الزمن، من التمدّد، من الخلود في حياة محبّيه وقرّاء شعره، ولعلّ في ذلك ما يُفسّر لي شخصيًا غياب الوحشة، وحشة الفراق، كلّما تابعت له مقطعًا شعريًّا مصوّرًا!.
ـ شاعر من كَثْرَة ما ارتحل في كلماته، تمكّن من الإقامة الدائمة في القلوب. أمّا سِرّ أسراره، فهذا مكمنه: المدروس عفوي، والعفوي مدروس!.