العالم الذي نعيش فيه
التضخم والغلاء الحاصلان في العالم أمر حزن، وكالعادة هناك ثمن مؤلم يطيح حتى بأحلام الذين اختاروا البساطة كأسلوب حياة، وكنت دائمًا أعتقد أن الأسباب الأولى تعود للطمع الذي تمارسه القلة ضد الأكثرية، لكي تزيد أرباحهم أرباحًا إضافية.
أما ما يقوله الاقتصاديون على شاشات التلفزيون من أسباب أخرى أعتبره مجرد كلام لملء الوقت في برامج المحطات الفضائية، قد لا يروق هذا الكلام لمحللي الاقتصاد ولا ألومهم فأنا لست اقتصاديًا، لكنني لست بحاجة لأكون اقتصاديًا لأعرف بأن الإنسان طمّاع وسيحول الحياة إلى جحيم إن لم يضع حدودًا لطمعه، وأن الغلاء الحاصل في العالم مصدره الأول هو الطمع. أتفهم أن ترتفع الأسعار في العالم على المنتجات الفارهة، أن تتضاعف أسعار الساعات الثمينة لأن هناك زيادة في أعداد الأثرياء، وأن ترتفع أسعار السيارات الجديدة لما فيها من مواصفات فارهة، لكن أن ترتفع أسعار الخبز في بعض دول العالم فهذا ما لا يبشر بعالم هادئ ومستقر، عالم عمل فيه العلماء مئات السنين على تطويع علمهم لخدمة الإنسان وتسهيل حياته.
في بداية التسعينيات ومع ظهور الإنترنت كثرت مقولة أن العالم قرية، كان مبدأ المقولة أن العالم صار مرتبطًا ببعضه البعض كما لم يكن في السابق، ما الداعي أن تصنع منتجاتك طالما أنك تستطيع شراؤها من بلد ما وستصلك خلال أيام وسعرها أقل أضعافًا مما لو أنك صنعتها؟ ما الداعي من زراعة أرضك واستهلاك مياهك طالما أنك تستطيع إحضار ما كنت ستزرع بتكلفة أقل وبسرعة من بلد آخر؟ هكذا تخلت بعض الدول عن منتجاتها وصناعاتها، حتى تلك التي تميزت بها وتوارثتها عبر الأجيال، وحينها لم تكن تتخلى إلاّ عن قوتها وضمان اكتفائها الذاتي، فإذا ارتفعت سلعة في بلد المنشأ يعني ارتفاعها عندهم، وإن كان بلد المنشأ يعيش أزمة أو نقصًا في الإمدادات فهذا يعني أنهم يعيشون ظروفه بحكم عالم القرية. اليوم وبسبب الحرب الروسية الأوكرانية تكتشف الدول أن قرار العيش في عالم القرية لم يدرس بصورة صحيحة، وأنّ ثمنًا باهظًا يتم دفعه الآن ووصلت آثاره إلى الخبز الذي على المائدة، وأن عالم القرية بمفهومه الذي تم التسويق له لم يكن إلا ورطة تم تسويقها على أنها فائدة بحته. تعالوا نتخيل المشهد بصورة تمثيلية، رجل في بلد من بلدان العالم يذهب إلى الخبّاز فلا يجد خبزًا، حينها يسأل الرجل قائلاً للخباز: لماذا لا يوجد خبز؟ فيجيبه الخبّاز: لأن بواخر القمح القادمة من روسيا أو أوكرانيا لم تصل. والسؤال هنا: هل كان سكان البلد الذي لا قمح فيه طوال مئات السنين يشترون القمح من روسيا وأوكرانيا أم كانوا يأكلون مما يزرعون لكنهم تخلوا عن زراعتهم لأنهم وجدوا من يبيعها بسعر أرخص؟ أما النتيجة الآن: لا يوجد خبز!. لست ضد شراء المنتجات من دول العالم، لكن وجود السلع الغذائية الأساسية والمنتجات الرئيسية يجب أن تكون إنتاجًا محليًا، وأن لا تستبدل بما هو من الخارج لمجرد أنها أرخص، بعض الأمور لا تحتسب بالربح والخسارة.