|


صالح الخليف
إنها شغلة مزاج
2019-11-07
لا يمكن أن يجلس الصحفيون في أي مناسبة وأي حدث وأي مكان إلا وتكون مهنتهم وهمومها وحكاياتها وسباقاتها الوجبة الرئيسية على مائدة الكلام..
سيتكلمون عن السفر وعن الأصدقاء وعن الأقساط والزوجات وعن مشاكل الدنيا التي لا تنتهي، لكن الكلام الذي يأخذ نصيب الأسد والأرنب والبغل والجدي لابد وأن يذهب طوعاً وكرهاً للصحافة وكيف كانت وكيف صارت وكيف ستكون.. هذا حال الصحفيين المحترفين، وهذا بالطبع ينطبق تقريباً على كل المهن والأعمال والوظائف الأخرى.. أن يتكلم الآخرون الغرباء عن الصحافة فهنا يستلزم التوقف..
قبل أشهر قليلة وجدت نفسي بين أصدقاء ليس بينهم صحفي سواي.. دارت دائرة الألسن كما تدور البالونات في الهواء.. كلام كثير عن أشياء لا يتركها الناس دون كلام في يومياتهم.. جاءت الفقرة التي فاجأتني.. كلام عن الصحافة.. بديهي وطبيعي أن أتصدر المشهد لأنني الوحيد بينهم العارف بأسرارها وبواطن أمورها لكنني كنت كشاهد ما شفش حاجة.. مستمعاً ومنتبهاً ومشدوداً لا أكثر ولا أقل..
كان الحديث كله يدور حول الحلول الممكنة لإنقاذ الصحافة من الانهيار كما قالوا.. أحياناً كثيرة تأتي الحلول من خارج الدائرة.. هذا أحد أوجه الحياة.. حينما يصف المتفرجون على المعركة تفاصيل الحرب يكونون أقرب لملامسة الواقع، لأنهم يطلقون أحكامهم دون ضغوط ودون صراع مع تحديات الزمن.. الصحافة مهنة الأسرار وأعتقد وحدها التي لا يمكن تقديم مشاكلها وحلولها دون ربط أشياء كثيرة متداخلة من حولها وأهم كل هذه الأشياء تتمثل في ذائقة الناس وأمزجتهم بعيداً جداً عن احتياجاتهم ومتطلباتهم اليومية.. التعامل مع الذائقة والمزاج أمر معقد وصعب وأمر يطول شرحه ويتشعب..
طرحوا حلولهم ومحاولاتهم الإنقاذية ورفضت وبكل التعنت أن أبدي رأيي في هذا السياق.. قلت لهم من الأفضل تغيير الموضوع.. كنت بالفعل أريد الهرب لأن مزاجي لم يكن على ما يرام حتى أفند وأعدد وأطرح بإسهاب وثقة وقناعة ما أريد إيصاله حول هذه القضية..
إنها الصحافة.. مهنة الأمزجة فحتى الحديث عنها وعن أزماتها يحتاج إلى مزاج متعقل وهادئ ورايق.. هل تعرفون أحداً يقرأ الصحف بغضب وتوتر؟.. وكما أن قراءتها تحتاج إلى حالة من الروقان والتصالح مع النفس والحياة، فإن الكلام عنها كذلك يحتاج إلى نفس الأجواء.. قدمت السينما قراء الصحف في حديقة آخاذة وفنجان قهوة وسماء ملبدة بغيوم متفائلة..
إنها صورة تلامس ما يريد الصحفيون قوله عن مهنتهم وصنعتهم.. يريدون القول: إننا نمشي على حبال متراخية مثل أمزجة الناس.. لهذا فضلت الصمت وحاولت تغيير السالفة.. إنه المزاج يا صحافتي..!!