يمكن للكلام أن يكون حقيقيّاً ولكنه في الوقت نفسه ليس صادقاً!، مثلما يمكن للكلام أن يكون صادقاً وهو في نفس الوقت ليس حقيقيّاً!،
هل تصلح مرافعة الاتهام والدفاع في قضيّة رواية "مدام بوفاري" ضد الروائي "جوستاف فلوببر" دليلاً على هذا الكلام؟!، ظنّي: نعم!، خاصة ما قالته النيابة العامة، وترافع به المحامي العام "ارنست بينار" ـ سنة 1857ـ أمام محكمة جنح باريس، متهماً الرواية ومؤلفها، بجريمتيّ "الإساءة إلى الأخلاق العامّة، والإساءة إلى الأخلاق الدّينيّة، في صور شهوانيّة ممتزجة بالأشياء المقدَّسة"، ذلك أن "بينار" حكى الحكاية كما قرأها، سرد الأحداث وقد حدثت بالفعل، ثم وضع بين أهلّةٍ فقرات من الرواية، كتبها "فلوبير" حرفيّاً، لقد قال الحقيقة، لكنه لم يكن صادقاً!، ليس فقط لأنه اجتزأ وأخفى، لكن ـ وهذا هو المهم ـ لأنه سحب العمل الأدبي لساحة ليست ساحته، ومعركة ليست معركته!، مقتطفات من مرافعة الاتهام: "الأوضاع شهوانيّة وجمال مدام بوفاري جمال استثارة"!،
"قتَلَتْ الحُمَّى الحبَّ ولكن المريضة بَقِيَتْ"!،
"هناك من كان يستطيع أن يقول خيبة الأمل في الزواج ودَنَس الزِّنا، ولكن النَّص يقول: قبل دَنَس الزواج وخيبة أمل الزِّنَا"!،
وبالرغم من أن مدام بوفاري ماتت فعلاً، وبالتَّسمّم، إلا أن غيظ النيابة في مرافعة الاتهام كان حانقاً لأن مدام بوفاري اختارت بنفسها هذه النهاية: "ولكنها لم تَمُتْ لأنها زَانِيَة، بل لأنها أرادت أن تموت"!،..
مرافعة الدِّفاع التي قدّمها السَّيِّد" سينار" ضد السَّيِّد "بينار"، امتلأت هي الأخرى بما هو غير أصيل في الرّواية كعمل أدبي، حتى أنها بدأت بذكر محاسن والد الروائي وعائلته!، وراح "سينار" يُفنِّد مزاعم " بينار"، بنفس الطريقة، وبذات المستوى من التزام الحقيقة، ليصل إلى أننا أمام كتاب شريف وأخلاقي!، في كل هذا لم يكن "سينار" صادقاً أيضاً، كان فقط يقول الحقيقة!، لكنه في المرات القليلة التي طالب فيها بدراسة القيمة الأدبية للكتاب، وإعلانه " إنكم تجرّدون الكتاب من مغزاه"، ودعاء السخرية: " الله يحفظ مؤلِّفي المَعَاجِم من أن يقعوا في قبضة السَّيِّد محامي الإمبراطوريَّة"!، كان صادقاً بلا شك، وإن ابتعد عن الحقيقة!، ولقد كان في أفضل حالاته عندما أعاد تشريح مشهد موت مدام بوفاري الذي رأت النيابة أن أغنيّة المتسكّع الأعمى قد خدشت وقاره مستهزئة بالموت، فقد كان فيما قاله "سينار" نقداً فنيّاً عميقاً، ومقنعاً بأنها " ليست نزوة فنّان يريد فقط أن يجمع الأضداد بدون جدوى"!، وفي تنبيهه المتضرّع للمحكمة: " إنكم لستم ممن يْدِينون الكتب لبضعة أسطر، بل أنتم من أولئك الذين يحكمون قبل كل شيء على الفكرة والوسائل المُستَعمَلَة"!،..
وقد صدر الحكم ببراءة فلوبير،
وأكتب:
عند قراءة أي كتاب وعند الكتابة عنه، لا تتصرف وكأنك في محكمة، ذلك لصعوبة الجمع بين الصدق والحقيقة في مثل هذا الموقف، أمّا كيف تعرف أنك نجوت من مثل هذا الشَّرَك، فكَّر بكلماتك ورأيك وموقفك ومشاعرك، فإن لم تسمع فيها ما يصرخ أو يهمس بـ: "أيّها السَّادَة.. أيَّها السَّادَة" فقد نجوتَ!
وللحديث بقية غداً بإذن الله.
هل تصلح مرافعة الاتهام والدفاع في قضيّة رواية "مدام بوفاري" ضد الروائي "جوستاف فلوببر" دليلاً على هذا الكلام؟!، ظنّي: نعم!، خاصة ما قالته النيابة العامة، وترافع به المحامي العام "ارنست بينار" ـ سنة 1857ـ أمام محكمة جنح باريس، متهماً الرواية ومؤلفها، بجريمتيّ "الإساءة إلى الأخلاق العامّة، والإساءة إلى الأخلاق الدّينيّة، في صور شهوانيّة ممتزجة بالأشياء المقدَّسة"، ذلك أن "بينار" حكى الحكاية كما قرأها، سرد الأحداث وقد حدثت بالفعل، ثم وضع بين أهلّةٍ فقرات من الرواية، كتبها "فلوبير" حرفيّاً، لقد قال الحقيقة، لكنه لم يكن صادقاً!، ليس فقط لأنه اجتزأ وأخفى، لكن ـ وهذا هو المهم ـ لأنه سحب العمل الأدبي لساحة ليست ساحته، ومعركة ليست معركته!، مقتطفات من مرافعة الاتهام: "الأوضاع شهوانيّة وجمال مدام بوفاري جمال استثارة"!،
"قتَلَتْ الحُمَّى الحبَّ ولكن المريضة بَقِيَتْ"!،
"هناك من كان يستطيع أن يقول خيبة الأمل في الزواج ودَنَس الزِّنا، ولكن النَّص يقول: قبل دَنَس الزواج وخيبة أمل الزِّنَا"!،
وبالرغم من أن مدام بوفاري ماتت فعلاً، وبالتَّسمّم، إلا أن غيظ النيابة في مرافعة الاتهام كان حانقاً لأن مدام بوفاري اختارت بنفسها هذه النهاية: "ولكنها لم تَمُتْ لأنها زَانِيَة، بل لأنها أرادت أن تموت"!،..
مرافعة الدِّفاع التي قدّمها السَّيِّد" سينار" ضد السَّيِّد "بينار"، امتلأت هي الأخرى بما هو غير أصيل في الرّواية كعمل أدبي، حتى أنها بدأت بذكر محاسن والد الروائي وعائلته!، وراح "سينار" يُفنِّد مزاعم " بينار"، بنفس الطريقة، وبذات المستوى من التزام الحقيقة، ليصل إلى أننا أمام كتاب شريف وأخلاقي!، في كل هذا لم يكن "سينار" صادقاً أيضاً، كان فقط يقول الحقيقة!، لكنه في المرات القليلة التي طالب فيها بدراسة القيمة الأدبية للكتاب، وإعلانه " إنكم تجرّدون الكتاب من مغزاه"، ودعاء السخرية: " الله يحفظ مؤلِّفي المَعَاجِم من أن يقعوا في قبضة السَّيِّد محامي الإمبراطوريَّة"!، كان صادقاً بلا شك، وإن ابتعد عن الحقيقة!، ولقد كان في أفضل حالاته عندما أعاد تشريح مشهد موت مدام بوفاري الذي رأت النيابة أن أغنيّة المتسكّع الأعمى قد خدشت وقاره مستهزئة بالموت، فقد كان فيما قاله "سينار" نقداً فنيّاً عميقاً، ومقنعاً بأنها " ليست نزوة فنّان يريد فقط أن يجمع الأضداد بدون جدوى"!، وفي تنبيهه المتضرّع للمحكمة: " إنكم لستم ممن يْدِينون الكتب لبضعة أسطر، بل أنتم من أولئك الذين يحكمون قبل كل شيء على الفكرة والوسائل المُستَعمَلَة"!،..
وقد صدر الحكم ببراءة فلوبير،
وأكتب:
عند قراءة أي كتاب وعند الكتابة عنه، لا تتصرف وكأنك في محكمة، ذلك لصعوبة الجمع بين الصدق والحقيقة في مثل هذا الموقف، أمّا كيف تعرف أنك نجوت من مثل هذا الشَّرَك، فكَّر بكلماتك ورأيك وموقفك ومشاعرك، فإن لم تسمع فيها ما يصرخ أو يهمس بـ: "أيّها السَّادَة.. أيَّها السَّادَة" فقد نجوتَ!
وللحديث بقية غداً بإذن الله.