ـ إن كنتَ تتحدّث حديثاً جادّاً، ولقيتَ أن في المجلس مَزَّاحاً، وأن الأنظار والأسماع تتلهّف إليه، فلا تُكمل حديثك، اسكت، أو اترك المكان، أو شاركهم المِزاح!.
ـ تحصين الأحاديث العميقة مسؤوليّة سامعيها وليس قائليها!.
وكلّما حاول قائلها، والمتحدّث بها، تحصينها والدفاع عنها، أفقدها جدّيتها وعمقها! .
فإن زاد تحوّل إلى مُهرِّج، ومهرِّج مُمِل أيضاً!، وهذا أحد أكثر المواقف التي يمكن أن يقفها الإنسان رداءةً، لن يكون حينها مَدْعاةً حتى للشفقة!.. هذه واحدة من الفروقات الجذريّة بين الكتابة والمُشافهة! .
ـ في الكتابة أنت أمام قارئ مُتَخَيَّل، مثالي أكثر منه واقعيّاً، وموثوق فيه على نحو مؤكّد!، الكاتب الذي لا يثق بقارئه كاتب رديء سَلَفاً!.
ـ في المشافهة يكون الحضور تامّاً، لا غياب لأحد، حتى لو تمت غِيبة أو نميمة ـ لا سمح الله ـ، فإن نصيب الغائب حاضر، يُمكن ـ وفي حالات الغِيبة والنميمة يجب أن يأخذه أحد الحاضرين بالدفاع أو التصحيح أو قطع الكلام ورفضه أو تغيير الموضوع.
ـ الغيَّابُ في الحكاية الشفهية لديهم حضورهم أيضاً، عبر الحضور الفعلي للسامعين الموجودين والمحيطين بالمتحدث فعلاً، يمكن لأي منهم تغيير الحديث، بإنكار معلومة أو بقطع الجُملة وسحب دفّة الحديث شرحاً أو طرحاً، دعماً أو تفنيداً، اعتراضاً أو إضافة أو إفاضة.
ـ الحَدَث عبر حركة الزمن المتداخل يتحرّك أيضاً على هواه وعلى غير هواه، أيّ تغيير في المُحيط الشفهي يمكنه تفريغ الموضوع من محتواه، ذبابة تحوم حول أحدهم، ينُشّها، فتواصل بعناد، حَدَث يمكنه مع أول قفشة ساخرة من أحدهم، القضاء على فلسفة أرسطو قضاءً مُبرماً!، مثلما أن إشارة تلفزيونية من سطر واحد تقول إن وزيراً سيُحاكَم، مسألة يمكنها تأجيل تأملات آينشتاين إلى أجلٍ غير مُسمّى!.
هذه طبيعة الحديث الشفهي، وعلى المفكّر الشفهي تحمّل العواقب، والتعامل مع عدم حصانة الحوار الشفهي بتكتيكات عقلانيّة وعاطفة متسامحة مرحة خفيفة ومُهَيّأة دائماً لتنظيمات جديدة!.
ـ في الكتابة، يتخلّص الإنسان من هذه العوائق الشفهيّة، من ناحية لأن القارئ يُفترَض افتراضاً، ومن ناحية لأن الكتابة لديها قابليّة كبيرة لإيقاف كل حركة زمنيّة عدا حركتها هي!.
تفعل ذلك على مُستويين، فالقارئ لن يشعر بل ولن يفكّر بأن اتصالاً هاتفيّاً قطع جُملتين متعاقبتين للكاتب، رغم أن ذلك يحدث كثيراً!.
ومن ناحية أسبق، لأن الكاتب يمكنه بعد قطع استرساله الكتابي بمكالمة أو غيرها، العودة لقراءة ما كتب حرفياً ومن ثم تتمّة الكلام فيما يُشبه محو كامل لزمن الإنقطاع!، كل ما عليه هو أن يمسك بالإيقاع من جديد!.
ـ تتحكّم الهالة الخاصّة بمكانة المتحدّث في نشاط وكسل التفاعل مع الموضوع، المكانة السابقة لوقت الحديث الشفهي وغير المتعلقة به أصلاً، تتدخّل أيضاً، وتفرض على الموقف أموراً تحت أو فوق ما يحتمل!.
ـ كما أن تسرّب شحنات الرضا أو الاستياء، تدرّجها وتراكمها لدى السامع، من شأنها الإخلال بالإيقاع في أي لحظة!، مما يُفقد الحديث الشفهي تماسكه، ويميل به عن الذّروة الختاميّة التي لا يمكن لغير الكتابة إنجازها على نحو مثالي!.
ـ المُتلقّي في المشافهة لا يمكنه مهما فعل التخلّي عن دور المُراقِب!، الأمر الذي لا يمكن معه لفيض التأمّلات الوصول بكامِل هِبَاتها!.
ـ تظل للمشافهة حميميّتها الغالِبَة، حيث الطريقة التي يُقال بها الكلام تكون أهم من الكلام ذاته!.
ربما لذلك كانت المصارحة الشفهية في الحب أنفع وأقوى أثراً من كتابة رسالة!.
وعليه يمكننا صنع هذه القفلة:
ـ إن أردت الزواج تحدّث، أمّا إن أردت المُزَاوَجة فاكتب!.