ـ إن أردتَ اعتبار "كتاب الضحك والنسيان" لميلان كونديرا رواية أمكنك ذلك، وإنْ أردته مجموعة قصصية فهو كذلك، وهذه الصفة أولى به من الأولى، كما يمكنك أيضًا اعتباره سيرة ذاتية، فالرجل متجسّد بشخصه وباسمه الصريح في الأحداث وضمن الشخصيّات، وبيني وبينك ـ "حاوِل ألا يسمعنا أحد!"ـ يمكنك اعتبار الكتاب تنويعًا على رواية "إحدى عشرة دقيقة" فاقعة الإباحيّة لباولو كويلو!، لا أدري أيهما سبقت الأخرى زمنيًّا، غير أنهما يغرفان من بئر واحدة ويعزفان من النوتة الموسيقية ذاتها، يكاد يكون عمل كويلو موجّهًا للجميع، بينما عمل كونديرا موجّه للخاصّة المنتقاة بعناية!، بينما يُخرج كويلو سرير النوم إلى الشارع العام، فإن كونديرا يُدخِل الشارع إلى غرفة النوم حيث السرير!.
ـ قارئ القصص والروايات لا يحتفظ عادةً بأسماء الشخصيات، كثير منها يضيع، وقليل يضوع!، الأحداث نفسها لا يمكن لها البقاء صامدة مدة طويلة، يتخللها نسيان، وما يبقى هو الإحساس، وتجربة العاطفة والشعور، وقليلًا من الأسماء والعناوين الصغيرة والعبارات المؤثِّرة وما يمكن سرده!، ما يبقى هو تجربة القراءة نفسها، هذه هي التي لا يمكن لها أن تزول تقريبًا!، على الرغم من ذلك، فإنه يصعب عليك نسيان "الليتوست" في كتاب الضحك والنسيان، وهو على أي حال ليس اسمًا لشخصيّة لكنه اسم لِحَالة، ثم إنه لم يسبق لي قراءته إلا عند كونديرا، فما هو أو ما هي الليتوست؟!.
ـ كونديرا نفسه لا يُقدِّم الليتوست إلا عبر أمثلة، موضّحًا أن الكلمة تشيكيّة، وأنها بلا مُقابِل في اللغات الأخرى!، وخلاصة الأمثلة أن الليتوست حالة عاطفيّة، تتخلل كل علاقة عشق تقريبًا، وهي أقرب إلى المرض النفسي الذي لا بدّ منه فيما يبدو!، تتكشّف حين يحس المُحِبّ في لحظةٍ ما أنه أضعف وأدنى من المحبوب، أو العكس تمامًا، أي حين يشعر أنه الأقوى ويظهر له جليًّا ضعف المحبوب ولا حوله ولا قوّته!، وفي الحالتين يتدخّل ما يسميه كونديرا بالنفاق العاطفي، رغمًا عنّا، ويجري اختراع أسباب مزيّفة، وابتكار حجج واهية، لا يعرف صاحبها من أين أتت أو كيف أو لماذا!، اللهم إلا إذا ما قرر الاتصال بفرويد نفسه!.
ـ الليتوست حالة عذاب، وضَنا، ناشئة عن مشهد بؤسنا الخاص المنكشف فجأة، في لحظات غير محسوبة وغير متوقّعة، سأترك أمثلة كونديرا لمن يريد قراءة كتابه، وأقترح مثلًا: أن تدعو المحبوب إلى مطعم، ثم تكتشف أن فاتورة الطلبات فوق ما تملك من نقود لحظتها، فيقترح المحبوب دفع الفاتورة، توافق مرتبكًا ومرغمًا، هذا الارتباك هو بداية الدخول في الليتوست، خاصةً إذا ما سرا بك نحو حقيقة مُخبّأة أو ماضٍ ظننت أنك نسيته أو تريد ذلك، فالمحبوب أكثر ثراءً وأنت آتٍ من تاريخ طويل من الفقر، يكفي وجود التاريخ، حتى لو كان حاضرك مغايرًا له!، في طريق العودة يمكن أن يحدث خلاف بينك وبين المحبوب، مُشادّة ما، تكون أنت المتسبب فيها، لا علاقة لها بالفاتورة، ولا تقدر على ربطها بسهولة في تاريخك الخاص، إنها "الليتوست"، وقد يدخل المحبوب في "ليتوسته" الخاص به، حتى قبل أن تدخل في "ليتوستك"، ويكون عكسيًا!،..
ـ ليتني بقيت على أمثلة كونديرا فهي توضّح أكثر!، سألملم من كونديرا ما أتمنى أن يفي بالغرض: "إذا كان النظير أضعف منّا، لا نَعْدَم ذريعةً للإساءة إليه" إن هو تفوّق في لحظة مفاجئة!، أمّا إذا كان النظير هو الطرف الأقوى "فلا يبقى لنا إلا أن نختار الثأر منه بطريقة ملتوية" وبكيفيّة غير مباشرة!، وربما قمنا بإيذاء أنفسنا، في سبيل إغراقه في الحزن والندم علينا، أو رؤية الحسرة في عينيه على عدم قدرته على مساعدتنا أو إنقاذنا!، فالإنسان المهووس في الليتوست، قد يثأر من الآخر بفنائه هو!.
ـ يكشف كونديرا، أنّ الليتوست كما يصيب الإنسان فإنه يصيب الدُّوَل!، وأرجو ألا يغضب ذلك أحبتي في قطر، لكنني لا أجد تفسيرًا لهذا النشاز في السياسة القطريّة، أكثر من وقوع المؤسسة الرسمية القطرية في "الليتوست"!.
ـ لحظة المقاطعة كشفت ضعف قطر، أعادت إليها ذاكرتها، حدودها وإمكانياتها، أرجعتها إليها، ليست المقاطعة هي الموجِعة، لكن النظر إلى الوجه في المرآة!، هذا ما أربك قطر حقًا!،..
ـ ولا أظن أن جلبها للأتراك، وارتماءها في حضن إيران، ومطالبتها، أو تلميحاتها، أو السماح لأحدٍ منها وفيها بالمطالبة بتدويل الأماكن المقدّسة وتسييس الحج، إلا انتحار منها، انتحار الطرف الأضعف في علاقة الحب، عَلَّ وعسى أن يُسهم هذا الانتحار بجلب أكبر قدر ممكن من المعاناة والحزن والحسرة في قلب الطرف الأقوى!،..
ـ قطر تدخل في "الليتوست" الخاص بها، ومن خلاله تشكل صيحتها: لستم أقوياء كما تظنون، لو كنتم كذلك لنجحتم في إنقاذي مني!.