من السهل تصوّر هزيمة النظام القطري على مستويّات عدّة، غير أنني أعترف أنه كان من الصعب عليّ تصوّر هزيمة هذا النظام إعلاميًّا بهذه السرعة!، وبهذا القدر من الارتباك المُضحك!، والانسحاق المثير لتقزز لا يخلو من شفقة!.
ـ قطر تمتلك فعلاً ترسانة من الخبرات الإعلاميّة الماهرة، وهي عمليًّا أوّل من انتبه لقدرة الإعلام على إعادة ترسيم الجغرافيا، تمامًا مثلما انتبه الرحابنة في لبنان إلى قدرة الفن على فعل الشيء ذاته!،..
ـ مسرح الرحابنة، وصوت فيروز، جعلا من لبنان أوسع جغرافيًّا، أكثر من أي وقت مضى، ويوم تراجعت فيروز عن الغناء الذي كان يبدو يوميًّا ومشعًّا كل صباح بجديد، رجعت لبنان إلى جغرافياها، حيث الخريطة على الورق!،..
ـ ظهرت قناة الجزيرة، بحرفيّتها العالية، وحضورها المفاجئ في قلب إعلام عربي رخْو ومتثائب، فتغيّرت جغرافيا قطر، صارت تبدو أكبر بكثير من حقيقة مساحتها وقدراتها، وللأمانة فإنني لا أظن أبدًا أن كل محاولة عربية أخرى للحاق بها قد أفلحت!،..
ـ ما أسقط الجزيرة هي الجزيرة نفسها، كشفتها لحظات التاريخ الحاسمة، أربكها المشهد، وطغيان الغرور الأجوف لعب في حسبتها!، فلم تقدر على إخفاء وجهها الحقيقي، وما إن كشَفَتْ عن هذا الوجه حتى تبيّن أنه قَفَا!، قناة بلا وجه، كائن مشوّه بقفا وقفا، حتى اللغة لم تحاول من قبل طرح القفا بصيغة المثنّى، فلا أعرف كيف أكتب الكلمة!...
ـ الفرق بين مسرح الرحابنة في لبنان وقناة الجزيرة في قطر، هو أن الرحابنة أدخلوا لبنان في حنجرة ملائكية، في حين أدخلت الجزيرة قطر في حجرة شيطانيّة: حنجرة ملائكية وحجرة شيطانيّة، هذا هو الفرق وهذا هو الفراق!..
ـ غير الفرق والفراق، هناك مفارقة، هذه المفارقة لا علاقة لها بالرحابنة، فلنشكرهم لبقائهم معنا حتى هذه اللحظة، ولننتقل إلى مشهد آخر، اربطوا الأحزمة:
ـ باستثناء قطر، حيث الأمر يجري عكسيًّا!، كثير من الضعف الإعلامي العربي، مردّه تدخّلات السُّلُطات الحاكمة في فعل المؤسسات الإعلاميّة، حتى أنّ شكلاً كاريكاتيريّاً يمكن رصده ورسمه هنا: المؤسسات الإعلاميّة العربيّة "غير الرسمية قانونًا"، تشعر، ويشعر أصحابها، بأنّ عدم التدخّل الحكومي في تسييرها، مؤشِّر على فشلها!، أو استهانة بها!،..
ـ وهي بهذه الرؤية المقلوبة ترتكب من الهفوات ما لا يمكن له غير إضعافها!، إنها مؤسسات تعرف أن كونها غير رسميّة، إنما هو أمر رسمي!، وأن السُّلُطات الرسمية هي التي أرادت لها مثل هذا الوضع، لغايات وأهداف رسميّة في نهاية المطاف!، وبالتالي فإنه لا يمكن لأي من هذه المؤسسات الإعلامية، صحفًا ومجلّات وقنوات تلفزيونيّة وغيرها، أن تكون قويّة وأن تتقدّم، إلا بحسب قوّة وتقدميّة الجسد الحكومي التي هي ليست سوى ظلّاً له!، فماذا عن قطر ومؤسستها الإعلامية قناة الجزيرة؟!،..
ـ نحن أمام النقيض الأكثر كاريكاتيريّةً، حدّ اقترابه من "المسخرة"!، فما حدث في قطر هو أن مؤسسة الحكم الرسمية، السُّلطة السياسية نفسها، هي التي خضعت لشروط ونهج و"سياسة" المؤسسة الإعلاميّة!، الابنة أرضعت أمّها!،..
ـ للوهلة الأولى، وهي وهلة دامت لسنوات، بدا الأمر وكأنه في صالح قطر وقناة الجزيرة معًا، فالجزيرة من ناحية بدت أكثر حريّةً وحيويّة من أي وسط إعلامي عربي آخر، في حين بدت السلطة في قطر من الناحية الأخرى أرحب صدرًا، وأقل رعبًا من مخاطر النقد والمكاشفة، وتقبّل الرأي والرأي الآخر!، وبهذا كسبت قطر مساحة فعل أكبر من قدراتها وتاريخها وجغرافياها بكثير، مثلما كسبت قناة الجزيرة تفوّقًا إعلاميًّا على كل من حاول منافستها!..
ـ لكن ولأن الأمر من أساسه، ملتبِس، ولأن الصفقة من جذرها مقلوبة كجلسة خفّاش، فقد كان لا بد مما ليس منه بد، وكلّما مر الوقت اقتربت لحظة الحساب بين الطرفين، والتي لم يكن لها أن تكون في صالح مؤسسة الحكم أبدًا!..
ـ منذ البدء، خضعت السّلطة السياسية في قطر لنهج و"مذهب" قناة الجزيرة، وفي حين أن الإعلام العربي غير القطري راح يدافع عن حكوماته، راحت الحكومة القطرية، تنفذ أجندة قناة الجزيرة، وتدافع عنها!،..
ـ هانحن نصل إلى نهاية السباق، والنتيجة: تفوّق الإعلام العربي لأسباب سياسيّة، حيث الحكومات كانت أكثر رشدًا وبكثير، بينما خسرت السياسة القطرية لأسباب إعلاميّة، بعد أن كشفت الجزيرة عن رعونة وعن نشاز مُنْكَر!..
ـ ورغم أنني لا أرى أنّ المطالبة بإغلاق قناة الجزيرة أمر مهمّ، إلا أنه يمكن لي تفسيره من المنطلقات السابقة، فالقرار السياسي في قطر لا يصدر من قصر حكم، بل من استديو!.