|


أحمد الحامد⁩
قبل الإذاعة
2021-12-15
في اليوم الأول الذي ذهبت فيه إلى المبنى الذي انطلقت منه الإذاعة لم أكن أبحث إلا عن عمل، أي عمل، لأن وجه والدي كان لا يفارقني، حتى عندما أغمض عيني لكي أنام، كنت أريد أن أقف بجانبه، وكم كنت سعيدًا بل كدت أطير من الفرح عندما تم ضمي لفريق فرز الرسائل بالتلفزيون، أظن أن الذي منعني من الطيران فرحًا هو سقف المكتب.
بعد شهرين انطلقت الإذاعة وكنت واحدًا ممن ألحقوهم بالمكتبة الصوتية، حينها ودون تخطيط كنت مستعدًا للفرصة كما لم أكن بعد ذلك في أي شيء آخر. لم يلهمني خيالي في الطفولة تخيّل شكل الميكروفون طوال استماعي للإذاعة، لكن الصوت القادم من الجهاز كان يعبر أعماقي، وتشدني جاذبيته للبقاء بجانب مصدره، كبرت قليلًا وصرت أحفظ أسماء البرامج ومقدميها، كبرت أكثر وصرت لا أنام إلا على الصوت، كلَّف ذلك والدي بعض المصاريف لشراء البطاريات، لو كان والدي حيًا لابتسم وقال بصمت: “ما كانت التكلفة بس على البطاريات”. أقول بصمت لأنني لم أسمعه يومًا يشتكي من أي مصاريف حتى وهو في أشد الظروف المادية قسوة، قد يكون القائل هو صوت ضميري لأنني كنت أصرف ما آخذه منه سريعًا، ثم أعود إليه بصورة أسرع، قد يتكرر ذلك أكثر من مرة في اليوم، لم يردني يومًا، وفي كل مرة كان يعاملني وكأنها أول مرة، تخليت عن هذه العادة عندما كبرت قليلًا، ثم ورثها أخوتي الأصغر، وتغيرت عادتهم عندما كبروا، الشيء الوحيد الذي لم يتغير هي ابتسامة والدي عندما يعطينا المال وهي مرسومة على شفتيه. والدي لم يعطني المال فقط لكنه ومما أعطاني فرصة الاستماع للإذاعات، علمنا بطريقته فن الاستماع لأننا كنا نصمت عندما يتحدث مقدم البرنامج أو قارئ النشرة، فرض ذلك بإشارة لطيفة من يديه، وكنا نفهم: حان وقت الاستماع، وأميل بأن بدايتي الأولى في الإذاعة ابتدأت من إشارة يده تلك. منذ الطفولة أحببت عالم الأغنية من خلال الإذاعة، واليوم عندما أراجع تلك المرحلة أجد بأنني كنت مولعًا بالألحان والكلمات أكثر من المغنين أنفسهم، فكنت أعرف أسماء مطربين غير مشاهير لكن لهم أغنية جميلة، أما أصدقاء الحارة فكانوا مولعين بالمغنين أكثر، أحب أحدهم أبو بكر سالم لدرجة الهوس، وكان يكتب اسم “أبو بكر” على جدران البيوت وسور المدرسة وحوائط الدكاكين، العجيب أنه درّب صوته واستطاع أن يتحصل على طبقة من طبقات صوت أبو بكر، فكان يقلده بطريقة مقنعة، وأحب أحدهم عبد الكريم عبد القادر، لكنه كان حبًا عاقلًا رزينًا يشبه أغاني عبد الكريم، ووجدت نفسي دون تخطيط أجري معهم لقاءات إذاعية عن أغنياتهم ومنافسة الفنانين لهم، كانت اللقاءات تتوقف بدخولنا البقالة أو عبور شارع، أصف ذلك التوقف الآن بالفاصل الإعلاني.