ما الذي يحدث؟!
يقول الشاعر: القصيدة هي التي تكتبني، ويقول عدد كبير من عباقرة التمثيل إنهم ما إنْ يدخلون في الشخصيّة حتى ينسون أنفسهم، ينسلخون من شخصياتهم الحقيقية، وتتلبّسهم الأدوار!.
ـ مُخرِج السينما يقول، وهذه على لسان فيلليني تحديدًا: "إنني أشرع في الإخراج، إلا أنّ شيئًا آخَر يطغى، ولا يساورني شك بعد ذلك في أنني لستُ الذي يُخرج الفيلم، بل هو الذي يُخرجني"!.
ـ أظنهم صادقين!. الحقيقة أنني واثق من صدق العباقرة منهم، رغم أنّ مثل هذه الكلمات سرعان ما تلتصق بألسنة الأقل موهبة، يثرثرون بها كثيرًا، فيبدّدون جمالها، ومنهم من يجعلها مضحكة لفرط خيبته، ومنهم من يجعلها مُمِلّة!.
ـ الكلام صادق، لكنه مُنْضَبِطٌ على هوى الحقيقة فقط، وليس على مقاساتها!. تقبله اللعبة وترفضه العُلْبَة!.
ـ الذي يحدث للفنّان أثناء عمله الفنّي، مع اختياره للكلمة أو حفره للكُتْلَة أو تجسيده للدور أو ضربه للرّيشة رسمًا وموسيقى، هو أنه يبدأ!. لا بد من إرادة وتقصّد، لا شيء يأتي عبثيًّا بما في ذلك العبثيّ نفسه!.
ـ يعمل أهل الإبداع ليل نهار، حتى في صمتهم وسكونهم، ويمكن لكل من خالطهم ملاحظة سهيانهم وانفلات نظراتهم عمّا يدور من حديث؛ ذلك لأنهم في شغل دائم يكاد يكون أبَديًّا، هم لا يتخلّون عن التأمّل وانتظار المعجزة، لحظة البدء!.
ـ لا يتوقف قلب الفنان إلا طبيًّا، بعدها يُدفن سعيدًا!. قبل ذلك هو خفق مجازات وأخيلة وانتظار لحظة صيد لجملة أو لحن أو شهقة ضوء!. يحاول كل يوم، في ساعات متواصلة ومتفرِّقة، كل أمنيته أن يقدر على حبس إحساس في معنى!، والصعوبة الممتعة هو أنّ الإحساس هوائي: عطر ودخان، بينما المعنى احتوائي: شكل وإطار!.
ـ يبدأ الفنان، لكنه يعرف سريعًا طبيعة البدايات المنتهية إلى لا شيء، فيتوقف عنها، يُخلي سبيلها أو يزيحها جانبًا، ويبحث من جديد عن جديد!. هدفه ومبتغاه وأمنيته في العثور على بدايةٍ، ما إنْ ينجح في التقاطها، حتى تنجح هي الأخرى في التقاطه!. مثل هذه البدايات وحدها هي التي تثمر في نهاية المطاف أعمالًا أدبية وفنيّةً فخمةً وجبّارة!. في مثل هذه البدايات فقط يُجنّ الفنّان ويطيش سعادةً. كل ما عداها حَمْل كاذب!.
ـ نعم القصيدة تكتب شاعرها، لكن بعد أن ينجح هو في كتابة أوّلها!، وأوّلها هنا لا تعني مطلعها، فكثيرًا ما تكون مطالع القصائد هي آخر ما كتبه شاعرها!. أوّلها هنا تعني: الجملة أو شبه الجملة أو حتى الإيقاع خاليًا من الكلمات، التي ما إن يلتقطها الشاعر حتى لا يعود قادرًا على مغادرتها، قبل أن تمنحه كامل أسرارها وهداياها!.
ـ الممثّل الذي يدخل في شخصيّته يمنحنا توضيحًا أطيب: إنه يعرف في كل لحظة أنه ممثِّل وأنّه يؤدي دورًا، هو يعرف أنه سيقول الحوار المكتوب سابقًا، وأنّ عليه أن يتوقف عند نقطة محددة من الديكور، وأن يلتفت في لحظة محسوبة إلى زاوية كاميرا متَّفَق عليها مُسبقًا، ومع ذلك يدخل في الشخصية الأخرى فتأخذه إلى أبعاد وأحاسيس وانفعالات لم يدر عنها قبل لحظة الأداء العبقرية!.