طِينَة المُخالَفَة!
ـ أمّا “خَالِفْ تُعْرَف”، فلا أجدها إلّا صحيحةً، وغايتها كريمة، حتى لو فُهِمتَ خطأً، بل وحتّى لو قيلتْ من الأساس بهدف غير الذي يتجلّى لي منها!
ـ فطرةٌ في الإنسان أنْ يَعْرِف وأنْ يُعْرَف!. الوقوف في وجه هذه الفِطرة، مِن قِبَلِ المجتمع: قمع. فإنْ وقَفَ الإنسان نفسه ضدّ فطرته هذه فهو: مريض!. الأولى: ذِلَّة، والثّانية: عِلَّة!.
ـ وحين نتحدّث عن الفنّان، فإنه مخلوق من طينة المُخالَفَة إذا صحّ التعبير!. هو ما لم يُقْدِم على مُخالَفة، لن يفلح في تقديم مُختلِف!. والفنّ، بصفته إضافة لهذا العالَم، لا يُمكن لأجنحته أن تضمّ غير المُختلِف!. كل ما عدا ذلك نسخ وتكرار وليس إضافة!.
ـ لكن الفنّان، ولكي يُخالِف، فإنّ المسألة ليست سهلة، لا في شروطها ولا في نتائجها!.
ـ دعك من مسألة نتائجها الآن!. من أهم شروطها أنْ يفهم الفنّان، وأنْ يستوعِب، ما حوله، وأنْ يختبر هذا الفهم وذلك الاستيعاب، باستعادة الأسئلة الأولى، وبأسئلة جوهريّة يستنبطها التّأمّل العميق ويستحضرها الإدراك الفَطِن. فإنْ هو لم يجد، بعد كل ذلك، ما يستوجب الخِلاف، فإنّ أهم ما يتوجّب عليه إدراكه، هو أنّه سأل وتأمّل في غير فنِّه!.
ـ هل يتوقّف؟! إنْ هو توقّف فهو ليس بفنّانٍ أصلًا!. هل يُخالِف على غير اقتناع بما يقوم به؟! إنْ فعل ذلك فهو نصّاب مزوِّر!. ماذا يفعل؟! يبحث في فنِّه!. وكيف يعرف فنِّه؟. يعرفه متى ما امتلك الدّراية بالأمر ووجد في نفسه ضرورة مخالفته. ومتى ما أيقن، أو ظنّ ظنًّا يقترب من اليقين، بأنّ في تلك المُخالَفة خيرٌ له ولمن خالفهم!. فإن لم يكن خيرًا فجَمَالًا!. ذلك أنّ في كل جَمَال خير، حتى لو لم يُحِطْ به صاحبه عِلْمًا!.
ـ ومن شروط الخِلاف المضيء، والذي على ضوئه يستدِل الإنسان عمومًا، والفنّان خصوصًا: عدم تشهّي رفض الآخَرين له، تشهّيًّا أصيلًا!. وتقبُّل ذلك الرّفض والاعتراض بصفتهما قَدَرًا من أقدار الاختلاف والمُغَايَرَة!.
ـ هل قلتُ قبل قليل “الفنّان خصوصًا”؟! أعتذر! هناك من يجب إدخاله في التّخصيص أيضًا: العالِم!.
ـ أمضى “داروين” قُرابة عشرين عامًا، أو أكثر، يبحث ويُحلّل، ويستنتج، ولكنه في دفاتر صغيرة خاصّة كان يكتب متمنيًّا أنْ تكون نظريّته “التّطوّر” خطأً، وأن يَظْهَر له ما ينسفها!.
لم يكن يريد أنْ يكون ضِدّ أحد، لا الكنيسة، ولا الناس، ولا زوجته المتديّنة بطبعها وتربيتها!. لكن لم يكن بيده من الأمر شيئًا!، كلّ تجاربه وتحليلاته وبحوثه ذهبت به إلى النتيجة التي صاغها في نظريّة “التّطوّر”!.
كان بيده، فقط، أن يكتم السّرّ، وأنْ لا ينشر، وقد حاول ذلك بالفعل، وأسَرّها سنين طويلة، ولم ينشر إلا بعد أن تأكّد له بما لا يدع مجالًا للشّكّ، أنّ عالِمًا آخَر، قد اقترب كثيرًا، كثيرًا جدًّا، من الوصول إلى نفس النّظريّة!.
ـ ربّما كان تشهّي المُخالَفَة، بقَدْر معقول، فِطرَة!. لستُ متأكِّدًا!. لكن محاولة الوصول إليها بعبثيّة وبقدر مَعيب من الالتزام، ولمجرّد إيذاء الناس في مشاعرهم ومعتقداتهم، أو بفهم سطحي تافه لمسألة الشهرة، والتي تولِّد عند صاحبها رغبة في أن يعترض عليه، أو حتى يسبّه ويشتمه أحد، فهذه من الأمراض والعِلل!.
ـ “خَالِفُ تُعْرَف” لافتة طريق رائعة، ولأنها كذلك فهي صعبة، عَسرة المنال، ذلك لأن “خالِف” مسبوقة بـ”كيف؟!”، ولأن “تُعْرَف” ملحوقة بـ”ماذا؟!”.