2015-05-22 | 02:41 مقالات

العودة إلى (غرناطة)

مشاركة الخبر      

من شرفة (أندلسية) أنظر إلى (قصر الحمراء) هذا البناء الفريد الذي أقامه المسلمون في (غرناطة) على تلك الهضبة الصغيرة المطلة على الحدود الجنوبية الشرقية للمدينة.. هذه التحفة المعمارية المليئة بالآثار العربية والإسلامية تخلق شعوراً مراً في صدري وأنا أستسلم لنسمة هواء عليلة أحاول أن أصنع منها (أريكة) لهذا العقل الذي أدمن الركض.. أمنحه فرصة للاسترخاء ـ في مدينة الجمال ـ بعد عناء كبير.. لكن الهواء العليل القادم من جبل الثلج أشعل (الغليل) وهو يمر بالسفح لينقل لي حكايات القصر وبانيه من (بني الأحمر) وساكنيه من وزراء وجنود وخدم.. يحمل لي ذلك الألق الساكن في (جنة العريف) تلك الحدائق الفريدة في تصميمها وتنوع أزهارها ونباتاتها ونوافيرها. ها أنا أتنفس هنا تاريخاً لمجد أمة سادت بإسلامها فأدارت حكم هذه الأرض المليئة بالخيرات.. أشعر بالعزة وأنا أتذكر (طارق بن زياد) وهو يأتيها (فاتحاً) يهديها نور الله وسلامه وبركاته، لتنعم على امتداد ثمانية قرون مع بقية عواصم المسلمين في الفردوس الضائع؛ كانت فيها (غرناطة) جوهرة المدائن ورائدة النفائس، يهنأ فيها أكثر من نصف مليون مسلم.
آخر عواصم المسلمين في الفردوس الضائع كانت على موعد من السقوط.. أجمل ياقوتة في عقد مدن المسلمين ما زالت اليوم تذكِرهم بعد أكثر من خمسمائة عام بأنهم فرطوا في سر عزهم وقوتهم.. إنه التمسك بدين الله به يتحقق النصر.. (لا غالب إلا الله) كانت تملأ عقولهم وأفئدتهم.. تسكن جوارحهم؛ فراحوا ينقشونها على جدران غرف قصر الحمراء برسم فني بديع لتظل اليوم شاهدة على مجد قام عليها وانتهى بها.. (لا غالب إلا الله) سر النصر والسيادة طوال كل هذه القرون الطوال.. وهي ـ أيضاً ـ سر الهزيمة وزوال هذا البهاء الطاغي أرضاً وسماء.. (وا.. إسلاماه).. كانت غرناطة تنادي بعد أن حاصرها الملكان المسيحيان "فرديناند الخامس" و"إيزابيلا" بقواتهما حصاراً شديداً في الثاني عشر من جمادى الآخرة لسنة 896هـ وأتلفا الزروع المحيطة بالمدينة، وقطعا أي اتصال لها بالخارج، فتهاوت في فصل شهد مواقف بطولية لفرسان مسلمين، ومواقف خذلان وركون للحياة ودعوة للاستسلام من قبل (أبي عبد الله محمد) سلطان غرناطة وبعض وزرائه؛ فضاع في زخم تلك الدعوة المتخاذلة كل صوت يستصرخ الفداء في النفوس، ويعظّم قيمة التضحية والكرامة في القلوب، فسلمت غرناطة للملكين الكاثوليكيين، بحجة المحافظة على أرواح المسلمين، ولكن الحقيقة التي عرفها الناس أن السلطان ووزراءه قد قبضوا ثمن الاستسلام منحًا خاصة من الأراضي والأموال، قبل أن يغادر السلطان مع أقاربه وفرسانه الخمسين، متجهاً وسط صفوف النصارى، إلى إمارته الجبلية الصغيرة التي منحت له ليحكمها تابعاً، وليلقي ـ بعينين باكيتين ـ نظرة أخيرة على غرناطة.. تلاحقه أقسى عبارة من أم حنون راحت تقول: " أبكِ كالنساء مُلكاً لم تحافظ عليه كالرجال".
ولم تكن مواثيق النصارى لحرية المسلمين الدينية سوى حبر على ورق.. لم يرضهم هذا الخضوع الكامل للمسلمين لحكمهم.. فأرادوا أن يمحوا كل ما يذكرهم بهم.. راحوا يهدمون المساجد وكل مظاهر الحضارة الإسلامية، بل وينكلون بالمسلمين ويأمرونهم بالدخول في النصرانية أو الخروج، فخرج كثيرون إلى إفريقيا الإسلامية وبقي آخرون يخفون دينهم.. ينتظرون عودة الفاتحين من جديد.. هنا في شوارع هذه المدينة الآسرة رحت أتأملهم.. نبدو مثلهم.. ربما كانوا من أحفاد أجدادنا.. أولئك الذي أُجبروا على اعتناق النصرانية.. إنهم يبتسمون لنا.. أشعر أنني أعرفهم.. لن أسألهم إن كانوا يعرفوننا؟.. أعرف أنهم سينكرون لأننا ـ ربما ـ لا نشبه أجدادنا.. إلى اللقاء.