الفرزدق وجرير: الطعام والذئب!
ـ شِيمة الفرزدق كانت عالية، وكان خُلُقه حسناً، وهو حين يقارن بجرير على المستوى الشخصي والإنساني، يكسب كل جولة، كان الفرزدق يُنفِق ويعتق، وكان جرير أقرب إلى اللؤم، وقبول المهانة، لكنهما في الشعر فرسا رهان!،..
ـ كان الفرزدق أدقّ، وكان جرير أرقّ!، الفرزدق أفصح وجرير أملح!،..
ـ لو خُيِّرت لاخترتُ تغييب سيرة جرير والإبقاء على شعره، أظنني عاطفياً، سأقترب من هذا الشعر وأستحسنه أكثر، ولكنني فيما لو أقمت الأمر ذاته مع الفرزدق، فإنني أخشى غياب شيء من الاستمتاع الذي أنا عليه، وسيرة الرجل العطرة حاضرة!،..
ـ قد يكون جرير أشعر "قليلاً" من الفرزدق، وقد قوّست "قليلاً" لأن "قليلاً" في قياس الشعر "كثير"!،..
ـ غير أن الفرزدق لطيب معدنه هو من علّمني كيف أتقرّب للشاعر بناءً على شعره لا على مشاعره!، وهو أيضاً من علّمني النقيض أيضاً، النقيض الأطيب: كيف عليّ أن أستفيد من عواطفي الشخصيّة البعيدة عن الشعر حين أقرأ الشعر!، علّمني كيف أتفهّم جرير، وكيف أحبّه!، أظن أن نظريّة موت النّاص وإحياء النص ظلّت تتبختر إلى أن تورّط العالم بروايات كافكا!، ومن هنا دخلت الفرويديّة في الأدب بقوّة، ورجعت.
أهميّة الشخصية وما خارج الأدب للأدب!، لكن لهذا حديث آخر بإذن الله، لنرجع إلى جرير والفرزدق:
ـ كانا على أيّ حال صديقين!، فلا يغرّكم ما بينهما من خلاف مصطنع ومرسوم لأهداف الشهرة وأغراض الكسب ولزوم الصّنعة!، ويوم مات الفرزدق رثاه جرير!،..
ـ لكن الحقيقة أيضاً أن الفرزدق كان نضّاحاً بالمحبة والكرم، حتى إنه يمكن له مصادقة الوحوش، ودعوة الذئب إلى طعامه، فهل كان في داخله يقصد جرير بحكاية مصاحبته للذئب:
وأطلس عسّالٍ وما كان صاحباً..
دعوتُ بناري مَوْهِناً فأتاني
فلمّا دنا قلت ادن دونك إنني..
وإيّاكَ في زادي لمشتركانِ
فبتُّ أُسوّي الزاد بيني وبينه
على ضوء نارٍ مرَّةً ودُخانِ
فقلتُ له لمّا تكشّر ضاحكاً..
وقائم سيفي من يدي بمكانِ
تَعَشَّ!، فإن واثقتني لا تخونني..
نكن مثل من ـ يا ذئب يصطحبانِ
وأنت امرؤٌ يا ذئب والغدر كنتما..
أُخَيَّيْنِ كانا أُرضِعا بلبانِ
ولو غيرنا نَبّهتَ تلتمس القِرى..
أتاك بسهمٍ أو شَبَاةِ سِنانِ
وكل رَفِيقيّْ كل رَحْلٍ وإن هُما..
تعاطى القَنا قَوْمَاهُما: أخَوَانِ!.