2008-09-12 | 06:00 مقالات

نافذة على زمن (الطراوة)

مشاركة الخبر      

هذا عنوان محاضرة لأستاذي الذي علمني أن للكلمة لوناً ومذاقاً وقواماً وملامح جميلة.
لأخي يحيى باجنيد تعود حقوق هذا العنوان.. أثبتها له هنا - ليس كما أفعل دائماً مع أولئك الذين استعين بأدبياتهم خلال مشواري في البحث الأكاديمي - فحقوق أستاذي تمتد بامتداد قراءاتي الطويلة لنصوصه، وأثرها الواضح في تشكيل لغتي وأسلوبي وفق فلسفة النظرية البنائية في التعلم والتي تقوم على الالتقاط والتعبير المستقل. (نافذة على زمن الطراوة).. هذا العنوان الجميل يعيدني اليوم إلى (النزلة) حارتي الجداوية - التي عشت فيها أحلى أيام حياتي - لأنقل لكم صورتين:
مراسلو المحبة:
قبل أكثر من ثلاثين سنة، وفي رمضان ما زالت تعلق بذاكرتي هذه الصورة الجميلة.
الوقت.. قبل موعد مدفع الإفطار بنصف ساعة..(النزلة) حارتي (الحلوة) ينتشر فيها الأولاد والبنات في (البرحة).. يخرجون من البيوت وهم يحملون فوق رؤوسهم (التباسي).
إنهم ليسوا باعة متجولين.. بل هم مراسلون.. يحملون (المحبة) أطباقاً شهية.. قائمة منوعة من المأكولات الرمضانية.. تجتمع بالتواصل لا بـ(الاشتراكية).. لتتشابه (السفرة) في كل البيوت.
هذه (شربة) أم صالح، وهذه (سمبوسة) أم يحيى وتلك (الماسية) أم سالم، وهذه (كنافة) أم حمدي.
ويظلون في تواصلهم.. تجمع (صحونهم) قلوبهم.. فيدعون لبعضهم بالخير في شهر الخير.
دادة سعادة:
في ذلك الزمن أيضاً كانت تعيش معنا امرأة سوداء عجوز.. تأخذ لها زاويةً من البيت تدير فيها شؤونها.. كنا ندعوها (دادة سعادة)، كنت أظنها جدتي (أم والدتي)، ولم يخطر ببالي يوماً أن أسأل أمي لماذا هي تختلف عنا فقد كنت أحبها كثيراً وأذهب إليها لأشرب الشاي المعطر بقشور البرتقال. كنت أحب ذلك الشاي فقط لأن (دادة سعادة) كانت تعده.. وهي فرصة لكي أسمع منها حكاية.. صوتها القوي المليء بالاعتداد كان يثيرني يقربني منها أكثر.. إنها امرأة قوية تشعرك بالأمان، فهذا أخي حسين يحتمي بها كلما اقترف خطأً وفر من الوالدة.. كانت تحميه كما تحمي الدجاجة فراخها.. ولا تتردد في أن تنهر أمي إن أصرت على أن تسلمها (حسين).
ماتت (دادة سعادة).. ولم أعرف أنها كانت (أمة) عند جدي لوالدتي قبل أن يعتقها إلا بعد أن كبرت.. لقد فضلت العيش معنا وكانت أمي تحبها وتقدرها، وتعدها في مقام والدتها.. ماتت (دادة سعادة) وبكينا وبكى أخي حسين بحرقة واختفت رائحة الشاي المعطر بقشور البرتقال.