أنت كاتب
وأنا صحفي
الكتابة شيء والصحافة شيء آخر تمامًا.. وهذه قضية تناولتها كثيرًا من زاوية التباسها على البعيدين عن المهنة أو الجاهلين لطبيعتها وأسرارها، لكن حينما يقدم كاتب نفسه كأحد المنتمين للصحافة لمجرد أنها تترك له مساحة ليقول رأيه، ثم يصنف نفسه صحفيًّا، فهنا تختلط الأوراق ونحتاج للعودة إلى نقطة الصفر..
يؤذيني ويخنقني ويقهرني حينما يأتي كاتب ويعد نفسه صحفيًّا.. العمل في الصحافة ليس بطولة، وبالطبع ليس عيبًا أو عارًا، لكن الكتابة ليست صحافة.. هناك فوارق كبيرة ومتعددة وكثيرة وواضحة، وسردها وتعدادها يندرج تحت مظلة تفسير الماء بعد الجهد بالماء..
يمكنك أن تكون كاتبًا عظيمًا وفذًّا وملهمًا، دون أن تنشر الصحف لك حرفًا واحدًا.. هناك مئات الكتاب حول العالم، يقدمون نتاجهم الأدبي عن طريق الكتب والدراسات والبحوث بعيدًا عن ضجيج الصحافة.. هذا أحد أنواع الكتاب.. هناك نوع آخر من الكتاب يرتبط بالصحافة، من خلال نشر المقالات اليومية أو الأسبوعية، وهؤلاء هم من أعنيهم.. هم ليسوا صحفيين، وبعضهم يظن لأنه يقرأ اسمه في الجريدة فقد بات صحفيًّا.. مثل هؤلاء لا يمكنهم مخالفة طبائع الأمور والخروج للناس، والقول بإنهم يؤدون عملاً صحفيًّا لمجرد أنهم يملكون موهبة الكتابة.. الصحافة مهنة وسلوك يومي ومسار حياة بتفاصيلها الدقيقة والصغيرة والمتشعبة.. الكتابة موهبة وهواية وقدرة على تشخيص الواقع والأشياء.. مساران متضادان يتشابكان بفرضية الحاجة.. الصحافة تحتاج إلى الكاتب لتتقوى وتصدر لقرائها الرأي بجانب الخبر والتقرير والصورة والحوار والاستطلاع.. الكاتب يحتاج إلى الصحف لتصبح منصته التي يرسل من قواعدها قذائف يريد منها إصابة الهدف.. وهنا يبدو المشهد واضحًا..
الروائي والأديب الكولومبي العملاق غابرييل ماركيز وأحد الفائزين بجائزة نوبل، امتهن الصحافة والكتابة.. كان مراسلاً صحفيًّا مشاغبًا قبل أن تذهب به ركائب الحياة إلى الأدب والكتابة الاجتماعية السردية المتعمقة.. يقول بأن الصحافة هي أفضل مهنة في العالم.. كثير من الصحفيين يتباهون بشهادته هذه.. من مثله يمكنه الكلام عن المهمتين والمهنتين.. ظل يتحاشى الكلام عن الكتابة ثم قدم رائعته “أن تعيش لتروي”.. يسرد فيها قصة حياته بواقعية لذيذة.. والكلام عن ماركيز وصحافته وكتبه يأخذك بعيدًا عن كل ما تريد قوله أو الوصول إليه.. نتطفل نحن الصحفيين على الكتابة.. لكننا لا ندعي أننا كتاب أبدًا.. ومن واجباتنا المتناثرة تحت أيدينا أن نقول لمن يكتب فقط.. أنت كاتب فقط.. ونحن صحفيون فقط.. وهذا “الفقط” هو ذاك السراب بقيعة الذي يحسبه الظمآن ماء..!