محاكمة النار ومحاكمة الماء!
ـ يحكي مارك توين قصصه بتواضع أبويّ دافئ ورقيق. ولأنه ماهر في صنعته فإنّ الرّشاقة لا تفارق كلماته، لا الرّشاقة ولا خفّة الظِّل!.
ـ وفي واحدة من قصصه قرأت عن "محاكمة الماء"، وما إنْ عرفت شروطها وطريقتها، حتى تذكّرت ما يمكن لي تسميته بسهولة "محاكمة النار"، واسمها "البشعة"، تلك التي كانت تشكّل جزءًا مهمًّا من القضاء عند أهلنا قديمًا، وهي اليوم جزء من حكايات شعبيّة حقيقيّة ومتخيَّلَة كثيرة.
ـ أوّل ما لفت نظري في المحاكمتين، أنّ الجغرافيا تتدخّل بقوّة في المحاكمات!.
ـ محاكمة الماء كانت جزءًا من حكاية في الإسكيمو، حيث الثّلج لا يُشكّل تلّة فحسب، لكنه يرسم المكان كلّه على مدّ النظر وعلى مدّ الخيال أيضًا!. بينما محاكمة النار "البشعة" اختراع، أو لجوء، صحراوي بحتْ!. بحيث أنك فيما لو قمت بمبادلة للمحاكمتين، لانقلب الأمر إلى ما يشبه المكافأة لكل طَرَف!.
ـ "البشعة" أو ما أسميناه محاكمة النار بهداية من مارك توين، معروفة: عندما تغيب الأدلّة، ويتعذّر وجود شهود، مع وجود متّهم أو أكثر، بالادّعاء عليه، يلجأ "العارفة" وهو الاسم الأشهر للقاضي العرفي، إلى تسخين "الميْسم" أو أي آلة حديدية على النار حتى تسودّ وتحمرّ من شدّة التسخين، وعلى المُشتبه به مدّ لسانه ولحس الحديد المصطلي، فإن بقي لسانه سليمًا، فهو بريء، وإلا فإنه مذنب، بدليل البثور وأثَر الحرق على لسانه!.
ـ الماء أشد قسوةً من النار في محاكمته التي هي أشد ظُلمًا أيضًا!. في محاكمة الماء يُرمى المشتبه به في الماء، فإنْ غرق فهو بريء!، وأمّا إن نجى فقد ثبتت التهمة!.
ـ والفكرة هي أنّ المجتمعات، تطلب العدل، لا يمكن لها أن تشكل أبسط نوع من أنواع المجتمعات دون وسيلة ما لتحقيقه. هذا الأمر الإنساني الحَسَن لا يظل كذلك على طول الخط، فالوسائل المُتاحة تقرر على هواها في نهاية المطاف الحدّ الأقصى الذي يمكن للمجتمعات عن طريقها تحقيق هذا الذي تسميه قضاءً بشريًّا وعدلًا إنسانيًّا!.
ـ والمقصد أن نتريّث نحن البشر، وأن نكون أكثر تواضعًا وأقلّ غطرسة مما نحن فيه. ذلك أنّ في قلب كل واحدٍ منّا محكمة ما، تُقيم أحكامها على بقيّة الناس: هذا بخيل، هذا مغرور، هذا عديم مروءة، هذا منافق، هذا وصولي، إلى ما لا آخر لمثل هذه الأحكام!.
ـ نفعل ذلك دون مراجعة لمدى طبيعة أدواتنا، أدوات الفهم والمنطق والتدبّر والإدراك والقدرة على رؤية المشهد من كل زواياه وتقليبه على كل جانب!.
ـ وكلّما تطوّر الإنسان، وكلّما قَدِر على ابتكار أدوات ووسائل واكتشاف طُرق أكثر تماسكًا وأقوى حجّةً، اقترب خطوةً من العدل الذي يريده ويحبه الله تعالى.