أخطاء رائعة!
ـ اللفظ، جزء لا يتجزأ من الحكاية. بإمكان أي كلمة خاطئة أنْ تكون سببًا في هزيمة المعنى، إمّا بتحويله إلى مسار آخر، أو بالحصول على مشاعر وأحاسيس غير تلك التي كان مُراد القول من الأصل تجربتها أو بلوغها!.
ـ خطر تغيير المعنى، بسبب كلمة ليست في مكانها، أو بسبب كلمة رُسِمَتْ في الصفحة بخطأ مطبعي، لا يُشكّل الضرر الأكبر، أو أنه في حقيقته ضرر لكنه لا يخلو من إمكانيّة المنفعة!.
ـ يمكن للشعراء تحديدًا الاستفادة من مثل هذه العثرات متى ما وقعوا عليها في كتاب ما!. حول هذا أبوح لكم بسر:
ـ ضد التطرّف والإرهاب، سبق لي أن كتبت قصيدة شعبية، كان هذا أحد أبياتها: "أفشوا السلام بينكم.. كيف انقرتْ: أفشوا السّلاح؟!". هذا المعنى تحديدًا، كان يدور في رأسي قبل القصيدة، بل وحتى قبل أن يصبح التطرّف مكشوف الخطر ناثرًا للهدم والدماء والرعب في كل مكان!. كنت مثل من ينتظر مكانًا لهذا المعنى وقد هيّأ لي تنظيم القاعدة هذا المكان فقط!.
ـ أمّا أصل الحكاية، فقد بدأت من الكويت: كانت لنا زميلة صحفيّة، وفي صباح، أحضرتْ لنا نسخًا من مجموعتها القصصية، وكلّما سلّمَتْ أحدنا نسخته المُهداة والخارجة من المطبعة للتو، نبّهته إلى خطأ مطبعي فادح، كان أحد شخوص قصصها يرمي بالسلام، وبدلًا من كتابة "السلام عليكم"، حدث خطأ مطبعي فكانت: "السلاح عليكم"!. وكانت زميلتنا تنبّه للأمر بحسرة بالغة، وحزن حقيقي!.
ـ بقيتْ ذكرى هذا الخطأ بارقةً في ذاكرتي، فمن الأساس لم أجد في المجموعة ما هو جدير بالبقاء غير هذه المَلَاحَة الشعرية الحاضرة بالصّدفة مع هذا الخطأ المطبعي!.
ـ الآن، تمرّني ذكرى حكاية ثانية، تنويعًا على هذا المعنى. كنتُ أقرأ في كتاب يجمع أشعارًا نبطيّة قديمة، وعند بيت محدّد قفزتُ طربًا، يا للاستعارة المدهشة الفاتنة، يقول الشاعر: "عَلّ الحَيا ما يجي خدّه.. لو ربّعتْ كل الأوطاني"، ورحت أكتب عن هذا الخَيال العبقري للشاعر، وكيف أنّه صاغ ببراعة وصف دمع محبوبته بالمطر "الحيا"، متمنّيًا بتلاعب شعري بديع دوام سعادتها، برجاء ألا يهطل هذا المطر على خدّها!.
ـ حافظ الشاعر على بهاء الدمع وطهره فأكرمه لأنه جزء من المحبوبة، منبعه عيونها، فلم يُهِنْه ولم يقلل من شأنه، وإنما وصفه بالمطر "الحيا"، رغم تمنياته بعدم هطوله، مع تمنيّات رقيقة بدوام الربيع لها وحولها، أينما كانت وحيثما اتجهتْ "لو ربّعت كل الأوطاني"!. الله.. الله، وتمنح كلمة "الأوطاني" معنى عظيم الدفق فمحبوبته وطنه!. أوَ ليس بديعًا كل هذا، وفي بيت واحد تُعدّ كلماته على أصابع اليد؟!.
ـ بعد أيام من رعشة الإعجاب وهزّة الطرب هذه، ألتقي بالصديق الشاعر والباحث إبراهيم الخالدي، فيصحّح لي: "وينْ أنتْ رايح؟!.. خدّه يا حبيب قلبي اسم أرض "منطقة"، والشاعر يدعو عليها بانعدام المطر.. هجاءً!".
ـ وحين يقول إبراهيم الخالدي "يا حبيب قلبي" فهو يقول "يا مغفّل" ولكن بطريقته!. ونعم، كان المعنى كما صحّحه لي الخالدي، لكني لن أغفر له أبدًا إيقاظي من سَرْحة الخيال و"سيحة البال" هذه!. ولا زلتُ كلّما تذكّرت هذا البيت أتصرّف قدر الإمكان كمغفّل!.