القارئ
الحرّ!
- ليس أهنأ من القارئ الحرّ أحد!. وأقصد بالقارئ الحرّ هنا "وهذه المرّة بالتحديد": القارئ الذي لا يُمارِس الكتابة، فإن فعل فإنه يمارسها لنفسه، لا ينشرها للناس!.
- مثل هذا القارئ حرّ لدرجة تسمح حتى للتّسيّب بأن لا يكون مذمومًا!.
- لا يهم هذا القارئ من أين التقط هذه الفكرة، ولا يشغل باله بمرجعيّتها وبمن بدأ نبشها وصياغتها أولًا!. هو إن التقط الفكرة فلأنها التقطته حقًّا!. ولسوف تُغيّر منه ويتجدد بها فعلًا، فهو لم ينتبه لها، معنى أو صياغة، إلا لأنها أثارت فيه وحوله قلقًا وعبقًا، سواء فَهِمه أو أحسّه فقط!. صدقه مع نفسه خيالي ولكن هذا الخيالي المدهش ليس إلا حقيقته البسيطة!.
- يلتقط الأفكار والمعاني والصياغات من أي كتاب، لا يهمّه شيء!. ليس مسؤولًا عن إنصاف أحد!. الفكرة من هيجل إذن هي من هيجل، لن يبحث في أصولها عند أفلاطون أو غيره، لا شأن له بذلك!.
- وهيجل بالنسبة له كما أفلاطون، مجرّد أسماء، بمعنى أنه لو وقع على أي فكرة مدوّخة أو صياغة طروب، من أي اسم مجهول، أو لا يحظى بصيت عالمي، فإن ذلك لا يهمّه!. سيأخذ الفكرة ويدوخ معها، ويتأملها، ويستمتع ويستفيد، بعيدًا عن أي، وكل، صخب!.
- القارئ الكاتب مسؤول، ولأنه مسؤول فهو مُقيّد!. مُجبر على التقويس والإحالة كي لا يُقال إنه سارق!. وهو كلّما تخصّص تقيّد أكثر!. وأُوكِلَتْ له مهام يتوجب عليه قضاؤها بأحسن وأفضل صورة:
- يصير ملزمًا بتتبع المراحل والجذور، يُعاب عليه فيما لو قال: لا أدري من قال هذه العبارة!. فإنْ أخطأ في نسبة كتاب لغير صاحبه، أو تعثّر في اسم شخصية من شخصيات تولستوي أو دوستويفسكي، أو نسب بيتًا لغير شاعره، عُدّتْ جريمة نكراء، وأُهين بسببها، من قِبَل كاتب آخر مشغول هو الآخر على الدوام بأن لا يقع في الزلل، يهجم على زميله بقدر مخاوفه هو نفسه من الوقوع في زلل مماثل!.
- مشاكل عويصة أخرى يعانيها القارئ الكاتب، منها أنه مُلزم، أو يشعر دائمًا بأنه مُلزم، بقراءة الأسماء الكبيرة والأعمال الشهيرة!. مثل هذا القيد لن يتيح له الانفتاح على تجارب مبهرة كثيرة أخرى!.
- إنه محروم من لذّة الوقوع بالصّدفة على مُدهِشات في تجارب مُهملة!. ذلك أن الأسماء الكبيرة والأعمال الفخمة في كل فن كثيرة لدرجة لا يكفي لها عمر واحد!.
- القارئ الكاتب مُنتَظَر منه الإبهار دائمًا، يضطره ذلك إلى اختيار مفردات برّاقة، أحيانًا كثيرة تُخلّ بالمعنى أو تعبث به!. مُنتظَر منه التعمّق في الموضوع والتّماسك فيه، وكثيرًا ما ينتج عن محاولة التعمق هذه استطرادات خائبة!، وكثيرًا ما تقوده محاولة التماسك إلى شرّ التّمسّك برأيه ووجهة نظره!.
- كثيرًا ما التقيت بأُناس، ليس أطيب من حديثهم ولا أعمق من أفكارهم شيء، يسترسلون في كلامهم، أعرف.. أو أشعر.. بمدى ثقافتهم ووعيهم وكثرة قراءاتهم الحرّة وتأمّلاتهم القصيّة، لا يتأتئون، ولا يرتّبون كلامهم، فوضاهم عذبة وطريّة وترتّب عباراتهم بأحسن صورة!، لا يشعرون أبدًا أنهم مُراقَبون وأن عليهم إرجاع كل فكرة لفيلسوفها الأول!.
- ثمّ أنهم لا ينظرون لما يطرحون من أفكار، على أنها أسلحة أو دروع حماية، إنْ هم تنازلوا عنها أو غيّروها أو أعلنوا صحة وجوب التشكك بها، هُزموا، وتشوّهت صورهم!. بسطاء بآفاق مفتوحة وصدور رحبة دائمًا!.
- يشعرون أن كل شيء لهم، لأنه ببساطة لهم فعلًا!. لهم ومنهم ومعهم وبهم وفيهم!. لا يدخلون معارك خائبة أبدًا!.
- يتحدثون متى ما أحبّوا، ويسكتون متى ما أرادوا، الفاشيّة تتحاشاهم!. إنهم أضدادها ونقائضها!. لأنّ الفاشيّة بتقويس رولان بارت: "ليست منعًا من الكلام وإنما إجبار عليه"!.
- أغبطهم وأنتشي بهم وأستمتع معهم وأستفيد منهم، وأتعلّم، أكثر بكثير، بكثير جدًا، من سيل من المثقفين الرسميين والكتّاب المشاهير الذين، ياما وياما، شعرت بالاختناق من مجالسة وأحاديث عدد كبير منهم، وليس عندي شك أن كثيرًا منهم أحس تجاهي الإحساس نفسه!. معه حق وهو معذور!.
- لهؤلاء القراء الأحرار أكتب: شكرًا، وأعترف: أشعر بالخجل أمامكم، لأنني قارئ كاتب!.