أكثر نجابةً
وأقل «وَغَدَنَة»!
ـ الصراع، فكرة الصراع نفسها، ليست سيئة بالضرورة!. مكمن السّوء في الجواب عن سؤال: لماذا هذا الصراع بالذات؟!. أمّا فكرة الصراع فهي حيويّة ولازمة، وتدلّ على نشاط ورغبة في التقدّم!.
ـ كل جديد يدخل بالضرورة في صراع مع كل قديم، وبحسب قوّة الجديد من حيث الصحّة أو الجمال مُقابل قوّة القديم في الرسوخ والاستعمال، تكون حدّة هذا الصراع!.
ـ الجديد، فكرًا أو عملًا، ومهما حاول تطرية الملمس، فلن تكون هذه "الحِنّيّة" إلا أداةً من أدواته وحِيلةً من حِيَلِه لهزيمة القديم!. والقديم يعرف ذلك بالعقل والفطرة، ولن يقبل بسهولة تجريده من أسلحته!. غياب الصراع يعني أنّه لا جديد بالمرّة!. أمّا وجوده باردًا باهتًا واهنًا فمعناه أنّ أحدهما، الجديد أو القديم، هشّ وضعيف وفاشل ومهزوم سلفًا!.
ـ كل مذهب أو نهج أو أسلوب فني جديد، حُورِب من قِبِل المذهب والنهج والأسلوب الأقدم منه!. من أسلحة القديم رسوخه وتعاطف الجموع معه، ومن أسلحة الجديد قدرته على التغلغل والاندماج في اليومي والمُعاش!. من أسلحة القديم التراب الذي خُلِق منه الإنسان، فالتراب ثابت بطبيعته!. ومن أسلحة الجديد الماء الذي صار به الإنسان حيًّا، فالماء متحرّك بطبيعته!.
ـ الجديد أقرب إلى كسب الصراع، لأن لديه سلاحًا آخر، فطريًّا أيضًا: شهوة التجريب وحب الممنوع والطمع في الامتلاك والتوسعة!. آدم عليه السلام أكل من الشجرة بالشهوة لا بالشهيّة!. وقابيل قتل هابيل بهذه الشهوة أيضًا!.
ـ الحياة قائمة على الحركة، والحركة تدافُع، والتّدافُع صراع، والصراع حرب!. والحرب، والرؤية هنا لابن خلدون "لم تزل واقعةً في الخليقة منذ بَرَأَها الله"!.
ـ حين نقول همجيّة أو حضارة، فنحن لا نقول، فيما يبدو، الصراع أو غيابه، بقدر ما نقول إن الحرب في الحضارة ذات غاية أبعد وأسمى، بينما الحرب في الهمجيّة غاية بذاتها، أو لغاية أشد انحطاطاً!.
ـ ومهما يكن، فإن الآمال يجب أن تظل قائمة في إمكانية الخلاص من الدّموية، وأن يبقى الإنسان مصرًّا على الإمساك بالحُلُم الشاعري العظيم هذا!. أمّا صراع الأفكار فمن الأطيب أن يبقى حيًّا نشيطًا يقظًا فطِنًا ولمّاحًا!. مع العمل على أن يكون أكثر نجابةً وأقلّ "وَغْدَنَة"!.
ـ ذلك لأن صراع الأفكار يمكن له تحقيق ما يبدو مستحيلًا: انتصار كل أطرافه معًا!. أو انتصار طرف مع عدم هزيمة الطرف الآخر!.
ـ فالصراع، أي صراع، إنما يعني أنّ هويّةً ما تريد ترسيخ وجودها، أو حماية هذا الوجود حين يتهدده الخطر!.
ـ وكل هويّة تعريف، وكل تعريف تقويس، وفي كل تقويس إقصاء!. ومن حسنات صراع الأفكار فتح الأقواس، ومساءلة ما أُغلِقَتْ عليه، ومن ثمّ تحريكه وتطويره، وحشره بين أقواس جديدة!. ففي غياب التقويس يتيه المعنى وتُفقد الهويّة!. وهكذا دواليك!.
ـ أخيرًا، أريد الاعتراف لكم بما أظنه طريفًا بعض الشيء: حين بدأت كتابة هذه المقالة، كانت الغاية الحديث عن "رافا نادال"!. لا أدري كيف تم السطو على الفكرة، وإزاحة الفكرة الأساسية بعيدًا!.
ـ كل ما أتذكره هو أنني بدأت بهذه الكلمات: أعجب ما في نادال طريقته في تشجيع نفسه أثناء المباريات!. في تحفيزها طوال الوقت، وفي الثناء شبه الطفولي عليها مع كل نقطة!. وكأنه في صراع مع ذاته لا مع خصم ومنافس آخر، وكأنه الجمهور!. وفي هذا يكمن سرّ الإنجازات الرائعة حقًّا!.