توفيق الحكيم!
يظل توفيق الحكيم حالة متفردة، ولها العجب. كانت وظيفته الرسمية أن يُمثّل الاتّهام، بينما حقيقته أن يُمثّل الإلهام!. والحمد لله أنه انتصر لحقيقته على وظيفته!.
- لم أقع على أديب يقترب من توفيق الحكيم من حيث الكتابة بأقصى قدر من الرزانة والهدوء، ثم تنطلق من هذه الرزانة ومن ذلك الهدوء حكايات وقفشات ساخرة تُضحك طوب الأرض!.
- ولا يتوقّف العجب. إذ ومن خلال هذه الالتقاطات البسيطة التي تتحوّل إلى كوميديا فاقعة دون أن تفقد من رزانتها شيئًا، يقتنص توفيق الحكيم نوادر حِكَمِه، ويطرح في شذرات عابرة، أهم أفكاره الجمالية والفلسفية!. كيف؟! لا أدري!.
- يوم قرأت لتوفيق الحكيم، كنتُ صغيرًا في العمر والفكر والتجربة، الأكيد أن مسألة العمر، على الأقل، تغيّرت الآن!. وأتذكّر أنني لم أكن مُعجبًا بتوفيق الحكيم!.
- كلماته لم تكن "مُكَهرَبَة" بما يكفي لغواية شاعر شاب "مستعجل"!. لم يكن للكلمات الرنين الذي لكلمات طه حسين مثلًا!.
- في زمن النشاط "الجسدي" المتحفّز ذاك، لم أكن قادرًا على التفريق بين السّكينة والساكنة من الروح والأجواء والأفكار والعبارات!.
- أفكاره لم تكن مشعّة بما يكفي لقارئ مبتدئ. فإنْ هي قُورِنَتْ، "وقد قُورِنَتْ!"، بأفكار العقّاد بدَتْ لي واهية متهافتة!.
- وهو أيضًا، لم يكن مثل يحيى حقّي مثلًا!. كان يحيى حقّي يُقرّبك من مُرادِه بسرعة ووضوح، يحدّد لك الأرض، فتعرف جغرافياها ونوع تربتها، بعد ذلك يبدأ الحفر عميقًا!. توفيق الحكيم يأتي من البعيد، من حكاية لا يبدو أنها ستقود إلى ما تقود إليه كل مرّة!. احتجتُ لزمن طويل حتى أستشعر فخامة الجمال وروعة العمل، حيث وفي النهاية، أو قبل النهاية بسطر أو سطرين، تكتشف أن الحفر عميقًا قد بدأ منذ بداية الحكاية، وأنك الآن أمام المياه الجوفية وقد تدفّقَتْ!.
- أيّام الصّبا!. كنتُ، في ذلك العمر، أحسب أن غياب الرّنين في الكلمات يعني عدم القدرة على "الإمساك" بالمعنى!. وأنّ غياب الجَيَشَان يعني عدم القدرة على "التّمسّك" بالرأي!. ولكم أن تتخيّلوا فكرة قارئ عن كاتبٍ لا يراه قادرًا على الإمساك بمعنى ولا التّمسّك برأي!.
- تركت توفيق الحكيم وشأنه زمنًا، عشر سنوات وأكثر. غير أن فكرة عجيبة ورأيًا متوقّدًا رائعًا، لكاتب لم أعد أتذكر اسمه ولا أين قرأت له ما قرأت، أعادني لقراءاتي الأولى!. كان صاحب الرأي يقول إنّ علينا جميعًا كقرّاء، الحذر من قراءاتنا الأُولى!.
- الكتب التي قرأناها في بداية العمر وفي أوّل الطريق تحتفظ لنا بأسرار، منها الفاتن وقد يكون منها ما هو مُخيّب للآمال!. الأكيد أننا لم نقرأ ما قرأنا!. ذلك لأننا كنّا في أول العمر والتجربة، دخلنا دون دِرْبَة ودون مِرَان، وبلا خبرة من أي نوع يمكنها أن تُرشدنا، أو تسعفنا وقت الّلزوم!.
- أقنعني الرأي، الذي أراه اليوم أحد أهم ما طُرِح في فن القراءة. وعلى قدر ما أمكنني أعدتُ فيما بعد الثلاثين من عمري، ما كنت قرأته في سنوات القراءة الخمس الأولى!. كان من بين ذلك بعض مؤلّفات توفيق الحكيم، ولقيت العجب!.
- تكشّفَتْ أبعاد وأبعاد، ولمّا وثقت بأنني أمام كنز أدبي مؤجّل، تجاسرتُ، وعن سبق ترصّد عدت لقراءة "عودة الروح". كم كانت مُملّة أيام المراهقة القرائية!. وكم بدت لي بعد ذلك مبهجة وعظيمة الأثر!. وأعترف: ربما، لو لم أظل أقرأ إلى أن أصل إلى "الجبل السحري" لتوماس مان، وأتشرّب ملله المتعمّد وجَرَيان حكايته السّلحفائي، لما قَدِرتُ على الانتشاء بحبكة "عودة الروح"!، وفهم أبعاد صياغتها على النحو الذي جاءت عليه!.
- وإنني لأمتلئ رعبًا اليوم، من فكرة أنه كان يمكن لي تفويت كل هذا الجمال العميق، البهيج، فيما لو لم أقرر الرجوع إلى توفيق الحكيم وقراءته من جديد!.
- لا أدّعي الحكمة، لكنني على الأقل، متيقّن أكثر من أي وقت مضى، أن الإنسان لا يكفيه السّعْي، وأنه بحاجة إلى "توفيق" ليكون "حكيمًا"!.