الصحافة..
ليتها وظيفة
الطب مهنة.. الهندسة وظيفة.. التدريس عمل.. الصحافة شغف.. كلام يتكرر وليس فيه مستجدات يمكن مراجعتها أو تقييمها من جديد، حتى باتت أشبه بالحقيقة المطلقة التي لا تحتاج إلى إعادة نظر.. حقيقة تسمعها في كل منتدى ومؤتمر وملتقى تدس فيه الصحافة أنفها الطويل، لولا أن السؤال الذي لا بد من إخضاعه للتحليل والتقييم هو: هل هذا الشغف مدح للصحافة أم انتقاد وتهكم وشتيمة؟؟
ليس هناك أي شغلة في العالم تتناول معك إفطار الصباح سواء داخل مطعم شعبي على أطراف حارة ناسيها الزمن، أو على كرسي وثير في قلب فندق عتيق مطل على نهر السين الباريسي سوى الصحافة.. وليس هناك شغلة تركب معك التاكسي والمترو والقطار والطائرة إلا الصحافة.. ولن تجد شغلة تتقاسم معك الوقت في يومياتك الفرحة أو الحزينة غير الصحافة.. ولا هناك شغلة ثانية تنام معك على نفس السرير كل ليلة وتتوسد معك نفس المخدة وتتقاسم معك اللحاف، وعندما تحاول طردها من الغرفة لأنك مرهق وقررت النوم ملء جفونك عن شواردها ولديك النوايا الصادقة لتحلم أحلامًا تدغدغ مشاعرك المرهفة وتسافر بك ملايين المسافات وتسكنك قصرًا بني من اللالئ والياقوت والأحجار الكريمة وتشرب عصيرًا فستقيًّا طازجًا على شاطئ اكتسى بزرقة المحيط الهادي إلا الصحافة.. إنها المهمة الوحيدة طوال التاريخ الإنساني التي ترافق أصحابها مثل أسمائهم وملامحهم.. إنها كشجرة لا تتخيلها بلا أوراقها وأغصانها وجذورها.. مثل عطر بلا رائحة.. مثل أغنية رومانسية بلا موسيقى.. مثل نهار يوم صيفي بلا شمس ساطعة.. يخرج الطبيب من غرفة العمليات بعد عملية جراحية معقدة وطويلة، ويطمئن على سلامة المريض ثم يغادر مبنى المستشفى ويولي وجهه شطر جلسة الأصدقاء اليومية، وتبدأ السهرة بصكة بلوت شرسة وسواليف عن مباراة للنصر والهلال أو أسعار الأسهم وأحوال الطقس، وسنابة هادفة لعبدالرحمن اللاحم وتغريدة ضاربة لراكان بن سعود وترجمة عجيبة لعبدالله الخريف، ويمضي الليل كما هي ليالي اتفقت ألا تتغير سوى بالتفاصيل الصغيرة.. الطبيب والمهندس والمدرس وموظف البريد نفس التركيبة البرامجية للحياة اليومية.. الصحفيون مختلفون تمامًا.. يؤدون واجباتهم الوظيفية وأصدقاؤهم صحفيون مثلهم وسوالفهم النسبة العظمى منها عن الأخبار والعناوين والصور والمقالات.. عن رئيس تحرير يفرض شروطًا تعجيزية.. عن زميل لا يعرف يصيغ جملة واحدة ومع ذلك استمر في المهنة عشرين عامًا.. عن مراسل مزاجي لا يتعاون بما تتطلبه الحاجة.. عن موفد مزعج لا يؤدي الحد الأدنى من رسالته الاعتيادية.. عن مصور مبدع ورائع ومتمكن وخطير يجعلك تحتار أي صورة تظهر على صدر الصفحة الأولى.. عن مخرج رتيب لا يتطور.. عن مصحح لا يستوعب أن النحو شيء ولغة الصحافة شيء آخر تمامًا.. عن جريدة منافسة بدأت بالانهيار لأنها تخلت عن أساسيات المهنة وغرقت بالهوامش وسفاسف الأمور.. عن شائعات لا تتوقف حول صحفي سيتولى مهمة إعلامية كبيرة.. هذا جزء من يوميات الصحفيين.. هذه حياتهم.. نصف الحقيقة ونصف الرواية ونصف الكلام.. وما بقي أعظم.. يتكلم الصحفيون عن وظيفتهم ويرددون دائمًا.. الصحافة ليتها كانت مجرد وظيفة..