2020-03-28 | 22:58 مقالات

ابتسامات مفصولة

مشاركة الخبر      

فكرة مراقبة العالم من مكاني تبدو مثيرة. السكون الذي يلفّ الدنيا يجعلني أغرق في التفاصيل الصغيرة ومحاولة تفكيكها.
أضحت المسألة بالنسبة لي كلعب شطرنج أو حلول كلمات متقاطعة أو النظر إلى السماء.
كل شيء بات يدهشني وبدأت التعامل معه على نحو مختلف. لا شيء يمنعني عن الاتصال بمن حولي والسكوت مُطبق. لا سيارات ولا مارّة ولا باعة ولا طائرات.. لا كلام سوى ضحكات وأغانٍ تنطلق من النوافذ وسط البيوت المنعزلة عن بعضها أساساً بجدران طويلة وأسمنت وحديد. حالة التباعد الاجتماعي التي انتهجها البشر في مواجهة فيروس ليست سخيفة على الإطلاق لكنها مُملّة وتبعث على السأم. يبدو أن التلامس الإنساني سيواجه مشكلة حقيقية في الزمن الحالي وخيار المسافات بين الناس سيكون الطريقة المُثلى للتعامل. الأجدى أن يبقى الفرد بلا جماعات وأن يتحدّ كل شخص مع ذاته وأن يكون بعيداً.. بعيداً إلا من تلويحات عابرة وابتسامات مفصولة.
في كل ذلك أخشى أننا سننسى العطر والتقاط رائحته من قريب وسيكون علينا أن نبذل جهداً أكبر لتغذية حاسة الشم حتى لا نكون بلا ذائقة.. والورد كذلك سيكون عصيّاً على اللمس وستذبل الهدايا. الأعين حتى.. ستعيش في وجع شديد لفقدانها رؤية حركة الناس في المطارات والاستدارة بين الوجوه للوقوع على ملامح كاملة. الأيادي ستبقى في وحشة إلى أن تتخلص مما علق بها. الأصابع هي الأخرى ستطول بها الغربة عن الأخذ والارتفاع والنزول.. ستتعامل مع المفاصل فقط. الألسن.. ستفتقد مذاق البُن والحديث في المقاهي المُفعمة بالإيقاع. ستشعر الأجساد بعدم الحاجة للتأنق وستغيب الألوان.. سيكون اللباس غطاءً لا مظهر وستكتسي الأحذية اللامعة بالغبار. كل ما حولنا وما حوانا سيغدو رهينة للمعقم والتنظيف. أخشى من اتساخ الأرواح إن طال بنا الحال. صحيح أننا بدأنا في فتح مسامعنا للطير والهواء لكننا اعتدنا الهدير والرقص على الخشب والتصفيق بحرارة بمناسبة ومن دونها. والاحتفال.. الاحتفال ليلاً ونهاراً صغاراً وكباراً. لا نحب الأزيز دون أدنى شك لكن قليل الصبر بيننا ربما يلجأ إليه لقتل البطء.. حينها ستتحول البيوت إلى أقبية سحيقة والشوارع إلى مقابر وممرات السفر إلى منفى كريه والمواسم إلى سرادق عزاء. لا أدري لماذا أتت “كورونا” قبل الربيع؟ بعد أن عاد الجليد إلى الذوبان والأزهار في طورها نحو التفتّح؟ لماذا لا يخشى النحل من “الجائحة” ويرتعد منها الإمبراطور؟ لماذا نحن بلا حيلة ولا نجرؤ على الملامسة؟