2020-07-28 | 22:28 مقالات

مكتبة النّسيان!

مشاركة الخبر      

- في المكتبة “الخاصة”، يشعر القارئ بانقلاب تام في الحكمة المحفوظة التي تقول: سفينة بربّانَيْن تغرق!. يجد الواحد منّا أنه في سفينة بعشرات، مئات، وربما آلاف الرّبابنة، وأنه بسبب ذلك، وليس بالرغم من ذلك، ينجو!.
- يتملّكه، في نفس الوقت، شعور آخر مُعاكِس، شعور بأنه الرّبّان الوحيد وأنّ الكُتُب غُرَف يسكنها ناس هو المسؤول عن نجاتهم، نجاتهم جميعًا، سواء منهم مَن فتح باب غرفته واتجه إلى الرّبّان وقضى معه وقتًا طويلًا، حكى فيه كل واحدٍ منهما حكايته للآخر!، أو من بقي منهم في غرفته وحيدًا لم يفتح الباب، ولن يفتحه، إلى نهاية الرحلة!.
- في المكتبة، المكتبة الخاصة تحديدًا، وبينما الإنسان مُحاطًا بالكتب من كل جانب، يشعر الإنسان بتلاقي النقائض واتفاقها. يُفاجأ بحقيقة أنه حين يجعل من الكلّ، كل هؤلاء الذين تحيط به كتاباتهم، سلاطين، فإنه يُصبح حرًّا، لا سُلطان عليه!.
- تذكّرت نصيحة العرب القديمة لمن يطلب الشعر ويريد أن يصير شاعرًا: “احفظ من الشعر ألف بيت ثم انسها”!. بهذا الجمع تتفرّد!. أُزاوِج بين الفكرتين. يتبيّن لي من لافتة الإرشاد العربيّة، أن المطلوب هو احتواء مكتبة كبيرة، وتسكينها في ذاكرتك ووعيك وذوقك وحسّك وفهمك، خلط موسيقاها بموسيقاك، وإيقاعاتها بأنفاسك، ثم بعد ذلك نسيانها!.
- الحكمة الفنيّة الرائعة، تتمثّل في هذا النسيان، أكثر بكثير من تمثّلها في الجهد المبذول للحفظ!. في النسيان تتم مساواة عجيبة، وحياديّة أعجب!. ورغم أني قلت أكثر من مرّة إنّ الحياد كلمة لا معنى لها، وإنه لو كان لها معنى لانحازت إليه، وبانحيازها هذا لا تعود محايدة!، إلا أنني أجد لها اليوم معنى، ومعنى عظيم، عبر النّسيان!. تمامًا مثلما يمكن تعريف أي نظام وترتيب بأنه: فوضى الفوضى!.
- حين ينسى طالب الشعر ما حفظ، كل ما حفظ، وكذلك حين ينسى القارئ كل ما قرأ، فإنه، وعبر هذا النسيان، لا يعود أحد منّا قادرًا على معرفة ما ترتّب!. لا نعود ندري ما الذي نُسي قبل الآخر!، ما الذي نُسي أكثر من الآخر!.
- ترتيب كتب مكتبة النسيان له تصنيف خاص وفهرسة خاصة وترتيب رفوف معيّن، لكن كل ذلك مجهول بالنسبة لنا، فيما لو نسينا حقًّا!. تُرى أي فكرة من أي كتاب غَلَبَتْ فكرة أو أفكارًا أخرى كنّا، قبل النسيان، نظنّها لا تُغلَب؟!. وأي معارك، وصراعات، دائرة الآن بين إيقاعات وتواقيع ما تم نسيانه؟!.
- بما أننا لا نتذكّر إلا أننا نسينا!. فإن هذه اللادراية، تصبح كافية للدراية!. فالنسيان لا يعني الإعدام ولا العدم، بل لا يقترب من حدودهما أبدًا!. هذه مسألة تؤكدها علوم الطّب النفسي، والفيزياء أيضًا: لا شيء يفنى!. المادة تتحول إلى طاقة والطاقة تنقلب إلى مادة، وهكذا دواليك!.
- ما نسيناه يتذكرنا بشكل أو بآخر، ويعيد تشكيل نفسه فينا من مادّة إلى طاقة ومن طاقة إلى مادّة!. أكاد أقترب من تصديق إحساسي: ذاكرتنا ليست أكثر من سمكة في بحر نسياننا!.
- النسيان هو الأساس، وكل ما نتذكره، هارب، أو منفي من أرضه ووطنه الحقيقي!. ربما ارتكب إثمًا أو جريمةً هناك، وجاء إلى الذاكرة متخفيًّا بوجه جديد، شكل جديد، صناعة ومهارة ولغة وروح جديدة!.
- الذاكرة: نسيان نسيان!. بل إن النسيان هو وحده من يحمي الذاكرة!. لفتة مدهشة من “بتراركا”: ما هو مفقود لا يُمكن أن يُدمّر أو يتلف!.
- بقدْر ما نكتشف ما حولنا، بقدْر ما نخترع أنفسنا!. الاختراع هنا لا يشمل حاضرنا فقط، ولا ما نتطلّع إلى أن نَكُون في المستقبل فقط!، لكنه يشمل، ويا للغرابة، حتّى ماضينا الخاص!.