الفن تدريب
على الجماعيّة!
- العمل الفنّي، حتى وإن بدا فرديًّا، فإنه في حقيقته عمل جماعي!
من زاوية ما: ليس هناك ما هو فردي في الفن والأدب!
- يبدو الشاعر وهو يكتب قصيدته، والروائي وهو يكتب روايته، وكذلك الرسّام وهو يرسم لوحته، إنما يقوم كل واحدٍ منهم بعمل فردي، بعكس الممثل المسرحي والسينمائي، وبعكس فرقة العزف الموسيقي مثلًا. هذا ليس صحيحًا إلا من الخارج، ومن النظرة الأولى العابرة.
- حقيقة الأمر أن الشاعر يتعامل مع عدد من الكلمات تتحرّك بجماعيّة ويسند بعضها بعضًا. وهذه الكلمات تنبع من حروف تتناغم فيما بينها ومع الحروف المجاورة بجماعيّة! الرسّام يتعامل مع ألوان وخطوط تجتمع وتتفرّق، تقترب وتتباعد، تتمازج وتتخالص!
- الفن، أعطيته أم أخذته، يُدرّبك على الجماعيّة، ويهيّئ لك مكانًا طيّبًا فيها!
- المخرج السينمائي، السينمائي تحديدًا، يشبه الشعراء والرسّامين، بصفته المسؤول الأول والأخير “فنيًّا” عن العمل، وعن كل تفصيلة من تفاصيله.
وهو مثل الشاعر والرسّام يظنّ أنه يعمل منفردًا.
- يظن المخرج السينمائي أنّ جميع شخوص فيلمه، مفردات، ليس سوى مفردات وأدوات، مثلهم مثل الكاميرا، والضوء، والكادر، والموسيقى، والديكور، والإكسسوارات، والقصّة والحوار أيضًا!
- على الأقل، كان يوسف شاهين، وهو المخرج العربي المفضّل لديّ عمومًا، يعاني مثل هذا الفهم الديكتاتوريّ الخاطئ!
- حين تراجع أفلام كثيرة له مثل “الاختيار” و”إسكندرية ليه” و”عودة الابن الضال”، و”حدوتة مصريّة”، و”اليوم السادس”، وأفلام أُخرى، تجد عقدة الممثّل فيه واضحة جليّة، يُسقطها على كل ممثّل، فيصير كل واحدٍ منهم، نسخة في الأداء من يوسف شاهين الممثّل، من “قناوي” بطل فيلم “باب الحديد”!
- كان أداء يوسف شاهين في “باب الحديد” عبقريًّا، على نحو يصعب الوصول إلى مستواه! لكنه لم يُكمل مشروعه كممثّل، وفضّل الإخراج السينمائي، ولأنه أحس بجريمة قتله للممثل فيه، انتقم من الجميع تقريبًا!
- صار يريد رؤية نفسه في كل ممثّل، بل وفي كل ممثّلة أيضًا! جعل من الجميع يُتأتِئ، ويُسرع في الكلام، بنبرة ساخرة، وربما بدخان سيجارة، مثله تمامًا!
- لكن، ولأنه فنّان حقيقي، لم يهرب من عقدته هذه، وفجأة قرّر تناولها، طمعًا في التخلّص منها، وكان ذلك في فيلمه “إسكندريّة كمان وكمان”، وهو الفيلم الذي أعُدُّه درّة تاج أفلام يوسف شاهين، وأحد أكثر أعماله عبقريّة، رغم فشل الفيلم الذريع المريع جماهيريًّا إلى اليوم!، ورغم أنه الأكثر تعقيدًا، والأصعب فهمًا، من بين جميع أعماله!
- في أحد مستويات هذا الفيلم، حفر شاهين عميقًا، وساءل تسلّطه على الممثلين بجسارة. كانت “يسرا”، وإلى حد ما “هشام سليم” يشكّلان الضمير القلق والطرف الآخر الرافض لهذا التسلّط الفردي، والمطالب بالجماعيّة! وفي الخلفيّة عقدة هروب الممثل الأقرب إليه والأشبه به “محسن محيي الدين”، ومجافاته له، والذي قام بدوره “عمرو عبدالجليل”!
- وفي آخر الفيلم، يقتنع يوسف شاهين بالرأي الآخر، ويتقبّله بحب!
ليست نهاية الفيلم هي المثيرة للإعجاب فقط. المثير للإعجاب حقًّا، ظهور أثر تلك النهاية، وذلك الاقتناع، على يوسف شاهين في كل أعماله التي قدّمها بعد هذا الفيلم! شاهدنا حريّة أكبر بكثير للممثّل، أي ممثّل، في التعبير عن نفسه من خلال دوره في كل ما جاء بعد فكّ طلاسم العُقدة وحلّها!
- أفلام مثل “المصير”، و”المهاجر”، أدلّة واضحة، بل وأظن أن فيلم “سكوت ح نصوّر” أُنجز برغبة شاهينيّة واضحة ليتأكد هو بنفسه من فكّ الاشتباك، وحَلّ اللّبْس، ومن قبوله اعتذاره لنفسه!