عاصي ومنصور وفيروز!
- قبل أكثر من أربعين عامًا، حَضَر “فيلمون وهبي” إلى الكويت، وفي التلفزيون أُجري معه حوار شيّق. كنتُ بالكاد أتخطّى الثالثة عشرة من عمري، لكني كنتُ قد أُولِعتُ بفيروز والرّحابنة، ولا أعرف من هو “فيلمون وهبي”!.
- تابعتُ اللقاء، لأنّني كنت مفتونًا، أيضًا، بالملحن الكويتي أحمد باقر. كنتُ وما زلتُ أرى أحمد باقر أحد أعذب الملحنين العرب. لا أمّل سماع ألحانه، وقد كان كثير منها من كلماته أيضًا!. كان أحمد باقر ليلتها ضيفًا على البرنامج برتبة مُضيف!. وكانت حركة ذكيّة وتكريم طيّب أنْ استعان البرنامج يومها بأحمد باقر لمحاورة الملحّن الشهير فيلمون وهبي، الذي عرفته يومها!. لأنّ أحمد باقر بدأ كلامه باستغراب كبير. ما زلتُ أتذكّر بعضًا من كلماته وجُلّ معناها: “قبل أن أجيء للبرنامج، بحثت عن ألحان فيلمون وهبي لفيروز، وصُدِمت!. كثير ممّا نردده لفيروز من ألحانه وليس من ألحان الأخوين رحباني”!. عدّدَ الأغنيات فذُهِلتُ!.
- مضت الأيّام، واكتشفتُ ما هو أكثر: “أعطني الناي وغنّي” لنجيب حنكش وليست للأخوين!. “كان الزمان وكان” وأغنيات عذبة كثيرة أخرى لإلياس رحباني، وليست للأخوين!. “يا أنا.. يا أنا.. أنا ويّاك” لموتسارت، وليست من ألحان الأخوين!. “سهار بعد سهار.. تا يخلص المشوار” لمحمد عبدالوهاب!. “قدّيش كان في ناس” لزياد، وغيرها، وغيرها!.
- وقبل أيام، كتَبَتْ الدكتورة هناء حجازي مقالة جميلة، بدأتها بهذه الفقرة: “قال لي يوما بعيدًا الصديق الراحل أحمد الهندي،...، هل تعرفين أن الأغنيات التي نحفظها ونرددها لفيروز ليست من ألحان الأخوين رحباني لكن لإلياس، أو زياد رحباني أو فيلمون وهبة. رددنا سويا الأغنيات واكتشفت صدق كلامه”!.
- والسؤال: هل أسطورة الأخوين رحباني “عاصي ومنصور” خدعة؟! وإلى أيّ مدى يستحقّان، فعلًا، كل ما وصلا إليه من صيت وسمعة؟!.
جوابي: لا ليست خدعة، ونعم يستحق الأخوين عاصي ومنصور، كل هذا المجد والشهرة والصيت والسمعة، بل وأظن أن عبقريتهما ستظل محلّ إطراء كلّما جاء الحديث عن الغناء العربي!.
- أولًا: غير صحيح أن كلّ، ولا حتّى مُعظم، أغنيات فيروز لغير الأخوين رحباني!. كوننا نتذكر عشرين، أو ثلاثين، أغنية لفيروز ونكتشف أنها ليست للأخوين، فهذا لا ينسينا أن بقية الألف أغنية لهما!. وكل أغاني فيروز، تقريبًا، ناجحة ومؤثّرة!.
- ثانيًا: الأخوين هما من صنعا من فيروز أسطورة غنائيّة، هما من حدّدا ملامحها ومناخها، بل وحتى طريقة دخولها إلى المسرح ووقوفها عليه وخروجها منه!. هما من علّماها كيف تتصرّف كملكة متوّجة بطفولتها!. كل حركة محسوبة بهندستهما!.
- ثالثًا: ليست هناك أغنية واحدة لكل هؤلاء الذين لحّنوا لفيروز لم يتدخّل فيها عاصي ومنصور بتغيير أو حركة!. فإنْ هُم قَبِلوا لحنًا دون إضافة أو تشذيب أو إعادة توجيه منهم، فهذا لأنّ الملحّن، أصلًا، خضع لمزاجهم، وترنّم على نهجهم، وبحسب مناخ موسيقاهم!.
- وحكاية توقّف عبدالوهّاب عن التلحين لفيروز شهيرة!. فبعد أن قدّم لها ثلاث، ربما أربع، أغنيات، أعلن انسحابه باعتذار فنّي عظيم وكريم، احتجّ على “تدخّل” الأخوين في موسيقاه!، مُضيفًا: “تدخّلاتهم جعلت اللحن أحلى لكني أريد للحني أن يظلّ كما هو”!. يومها، ردّ الأخوين، وتحدّث “عاصي” تحديدًا: “إنه عبدالوهّاب.. أستاذنا.. لم نتدخل في الألحان لإضافة جمال وإبداع، تدخّلنا فقط كي لا “تتمصّر” فيروز!. أردنا الإبقاء عليها لبنانيّة”!.
ولا أظن أنّ من يتصرّفون بلحن لعبدالوهاب يعجزون، أو يتردّدون، في التصرّف بموسيقى أي ملحّن آخر!.
- رابعًا: الكلمات، إمّا للأخوين، أو من اختيارهما بموافقة فيروز!. كل الكلمات؟! نعم كلّها!. فيروز أكّدت ذلك!. وبالنسبة لمقطوعة موتسارت، فقد وجداها متناغمة مع مناخهما الموسيقي، فصاغا من أجلها كلمات عبقريّة ساحرة!.
- الأخوين رحباني: سوّرا فيروز!. تمامًا كما يُسوِّر التعريفُ المصطلحَ!. صنعا جاذبيّتها، فدارت النجوم والكواكب حولها، بمقتضيّات هذه القوّة الجاذبة!.
- زياد رحباني، وحده، هدم السّور!، وقدّم فيروز جديدة بالمرّة. استبدل باقات الورود التي تحملها في يدها بأكياس مليئة بالخَسّ!. أخرجها من الحقل وحشرها في حافلة النقل الجماعي!. هدم السّور، لكنه لم يهدم الأسطورة!. اكتفى بصناعة أسطورة خاصة به وأجلسها في ظلال أسطورة عمّه وأبيه!.