عَلَامَة!
ـ فيما لو نظرنا إلى المنفعة اليوميّة، المادّيّة العمليّة والمباشرة، فإنّ موقفنا من الفنون والآداب لن يبتعد عن موقف أفلاطون لها!. ومع الأسف، فإنّ هذا لن يجعلنا فلاسفة مثل أفلاطون أيضًا!. هو فقط سيجعلنا نتفّق معه في آرائه التي تُقلّل من أمر الفنّ، وتتراجع به لا ليكون ثانويًّا، بل “ثلاثاويًّا” إنْ صحّ التعبير!.
ـ يرتّب أفلاطون الأولويات وأهمّيتها، وبالتالي قيمتها، على النحو التالي: المثال الأعلى الغيبي “الأوّليّ” الفوقي وفائق الكمال، ثم نأتي نحن وكل ما في هذه الحياة من مخلوقات وموادّ كشيء “ثانوي”، نُحاكي بفطرتنا السّليمة المثال الأعلى “الأوّليّ”، ثم يأتي الفن، في مرتبة ثالثة، لأنه يُحاكي “الثّانويّ” الذي هو نحن والكون وكل ما في الحياة، ويتشبّه به، فلا يُمكن قياس الفن إلا بناءً على الطبيعة وهندسة الطّبيعة!.
ـ نظرة أفلاطون هذه قابعة في، وراسخة لدى، عدد كبير جدًّا من النّاس، تختصرها “سوزان سونتاغ”، ساخرةً منها، بالتعبير التالي: يرى أفلاطون أنّ الفن ليس نافعًا، فالسّرير في اللّوحة لا يصلح أنْ يرقد المرء عليه!.
ـ الخيال الشعبي ظلّ أوسع مدىً من الفكر الأفلاطوني في هذا الميدان!. في الأساطير الماليزيّة والهنديّة وحكايات عجائز الفلبّين، أمر لا يُنكره العشّاق في كل مكان وزمان، حيث الاعتقاد السائد عن أنّ الجَمَال قادر على توليد ضوء باهر!.
ـ الحب والجمال من مصادر الضّوء، مثلهما مثل النجوم والشمس والقمر والنار. والفنّ مصدر من مصادر الضّوء أيضًا، لأنّه عصارة الحب والجمال، يأتي من الأوّل ليصنع الثاني، ثم سرعان ما يتكوّر على نفسه ويخلط بعضه ببعضه فلا يعود للتّراتبيّة معنى!.
ـ الفن لا يجعلك ترى الأشياء الجميلة. الفن يجعلك ترى الأشياء جميلة!. نورانيّته تنبع من هنا!.
ـ لكن الفنّ زئبقيّ من حيث التعريف فعلًا، ويصعب الإمساك بتعريف دقيق له!. وكلّما عُرِّفَ واقترب الإنسان من الاستقرار على حاله ومآله؛ تحرّك خطوة إلى الأمام، أو انقلب على عقبيه ناسفًا كل إمكانيّة لتعريفه بشكل محدّد وعلى نحو قاطع ونهائيّ!. مزج عجائبي من الصّدق والكذب والأحلام والواقع والحقائق والأباطيل والصّناعة والإلهام!.
ـ الفنّ عَلَامَة وليس عِلْمًا!. والعَلَامَة، على حَدّ تعبير رولان بارت: تفقد قيمتها حين تُفصح عن غايتها!.
ـ وحتى حين يقول قائل: لكنه في النهاية جمال، بحث عن الجمال واتّجاه إلى الجمال. وهذا صحيح، لكنه وحتى يكون صحيحًا فقد احتاج إلى أن يكون معناه سائحًا في الفضاء، رائحًا غاديًا، لا يمكن القياس عليه لاختلاف الأذواق والمشاعر والرؤى والمعتقدات!. والأدهى لكن ليس الأمَرّ، بل الأحلى، أنّنا حتى وفيما لو اتفقنا على تعريف جامع مانع للجَمَال، فإنّ الفنّ نفسه، ينقضّ على ذلك التّعريف ويحوّله هشيمًا تذروه الرّياح!.
ـ بالمناسبة، ليس بعيدًا عن الفهم الأفلاطوني للفن، كلّ مَنْ يشير إلى الأدب: “هو مجرّد كلام”، بل ولا كلّ من يقول: “أنا ماني راعي كلام”!. وكأنّ الكلام منقصة، أو كأنّ الكلام قليل فَائدة ولا جدوى منه!. والعجيب المريب سماع مثل هذا الكلام على لسان شعراء وأدباء وفلاسفة ونُقّاد.. ومشايخ دِين!.