إبداع
وإيداع!
ـ في كل ناقد كبير يُوجَد باحث صغير، مثلما يُوجد في كل باحث كبير ناقد صغير!.
ـ الفرق بين الصّغيرين أنّه يمكن للباحث الصغير في الناقد الكبير، أنْ يكون مدلَّلًا بعض الشّيء، يُسمح له عادةً باللّعب وربما حتى بشيء من التّخريب البريء!، مثلما يُسمح له بالتّنزّه في الحديقة والاستمتاع في الطبيعة، والحديقة والطبيعة هنا مدسوسة في أوراق المكتب!.
ـ في حين يذهب الناقد الكبير بالباحث الصّغير الذي فيه إلى تربية صارمة، حيث ضبط المشاعر وعزل الأحاسيس عن مكتب العمل، ومكتب العمل هنا هو الشارع والساحة والصحراء والبحر والغابات والجبال والطبيعة عموماً!.
ـ يحدث هذا، شرط أنْ تكون النتيجة النهائية على النحو التالي: العدل من الناقد، والمعادلة من الباحث!. ذلك هو المنشود من كلّ منهما وإلّا فَقَدَ كل واحد منهما صفة “الكبير”، والتي تعني “المحترم” والمُستأهل للتّقدير!.
ـ مهمّة النّاقد: الإبداع. مهمّة الباحث: الإيداع!.
ـ يتوجّب على الناقد أنْ يكون مبدعًا في الاقتناص والقياس والفكّ والتّركيب والالتقاط والارتباط!. يلزمه لذلك حسّ مرهف، وهو ما يتنافر مع الحياد!. الحسّ المرهف تبّاع هوى بطبيعته!. ولا يعيب النّاقد التّولّه الشخصي!. وهذا أمر يجعلنا بحاجة إلى تفسير معنى “العدل” المنشود منه!. فما سبق من صفات ومتوجّبات لا يسمح بقيام العدل الاجتماعي أو القضائي، وكل ما يسمح به، وهذا هو المنشود: العدل المنطقي في التفكير والتبرير والتصدير الأدبي، وعلامة هذا العدل، تمكينه لنا من قراءة المشهد، أو العمل الفنّي، برؤية جماليّة جديدة، ومنحنا مفاتيح لولوج باب لم نكن قادرين على فتحه، وربما لم نكن ندري أنه موجود، أو يمكن إيجاده، أصلًا!.
ـ ما يلزم الناقد في نهاية المطاف هو أنْ تكون لكلماته جاذبيّة ذات سطوة تعليليّة!. هو إنْ تمكّن من ذلك فقد عَدَل!. بشكل أو بآخر، فإنه يمكن السماح للناقد، أو التسامح معه، في ضروب الاندفاع والمعارضة، وهذا أمر يُحْرَمُ منه الباحث ولا يجوز التساهل معه في شأنه!. يمكن للنّاقد أنْ يحتجّ ومهمّته أن يحاجِج، في حين لا يمكن للباحث أنْ يقوم بعمله بغير الرِّضَا والقبول فمهمّته الإحصاء والجَدْوَلَة!.
ـ يُمكن للنّاقد أيضًا أن يكون صاخبًا، في حين لا يُمكن للباحث إلّا أن يكون هادئًا وصبورًا، وقد تلزمه العِفّة والنزاهة أكثر ممّا تلزم الناقد، رغم أنّ هذا الأخير هو المُوكَلُ بالعدل!.
ـ الباحث ليس من مهامّه العدل!. وأؤكّد المعنى المقصود من العدل هنا مرّة أُخرى: “العدل” بمعنى التّصرّف بمقتضى الحِسّ الأخلاقي أو العاطفي أو الإنساني عممومًا، وأوضّح الأمر أكثر: فيما لو كانت مهمّة الباحث مراقبة طبيعة الحيوانات في الغابة، فإنه لا يحقّ له إنقاذ أرنب من مخلب صقر، ولا غزال من فكّ أسد، مهما رأى في الأرنب من وداعة وفي الغزال من جَمال!. يُمكنه أن يتحسّر على ذلك خارج سياق عمله كباحث، أمّا صميم عمله فهو المراقبة والتسجيل وكشف المُعادَلَة!.
ـ العطف متاح للناقد مُحرَّمٌ على الباحث، فيما لو استثنينا “واو العطف” طبعًا!. هذا بالتّمام ما قصدته في العدل والإبداع بالنسبة للناقد، والمعادلة والإيداع بالنسبة للباحث!.